Find Out More

Is your organization one of the Best Places to work in Egypt

workL

ذو النورين.. عثمان بن عفان (6)

لقد أُشْرِبت النفوس من عقيدة الإسلام غيرةً لا عهد لها بمثلها فى التنافس بين أكفائها: غيرة العقيدة، وغيرة لها وغيرة عليها.. وكانت غيرة بناءٍ وصدقٍ ولم تكن غيرة هدمٍ وادعاء. وإذ فات عثمان ما أبلى به أكفاؤه وسبقوه فى ميدان الجهاد، فإنه سبقهم فى ميادين الجود والسخاء، وثابر على ذلك من يوم إسلامه إلى ختا

ذو النورين.. عثمان بن عفان (6)
رجائى عطية

رجائى عطية

9:58 ص, الأثنين, 3 أبريل 17

لقد أُشْرِبت النفوس من عقيدة الإسلام غيرةً لا عهد لها بمثلها فى التنافس بين أكفائها: غيرة العقيدة، وغيرة لها وغيرة عليها.. وكانت غيرة بناءٍ وصدقٍ ولم تكن غيرة هدمٍ وادعاء.

وإذ فات عثمان ما أبلى به أكفاؤه وسبقوه فى ميدان الجهاد، فإنه سبقهم فى ميادين الجود والسخاء، وثابر على ذلك من يوم إسلامه إلى ختام أيامه فى الحياة، ودون أن يبالى ما بقى من ماله أو ضاع، فكان يتقدم لبذل المعونة والعطاء فى كل محنة أصابت المسلمين من فاقة أو قحط أو نقص.

وكان يجود بماله فى سماحة محببة. قال ابن عباس: «قَحِط الناس فى زمن أبى بكر، فقال أبو بكر لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه فقال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة بُرًّا وطعامًا، فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه، فقال لهم، ما تريدون ؟ قالوا بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة بُرًّا وطعامًا. بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان ادخلوا ! فدخلوا فإذا ألف وِقْر قد صُبَّ فى الدار، فقال لهم: كم تربحونى على شرائى من الشام ؟ قالوا العشرة اثنى عشر. قال قد زادنى. قالوا العشرة أربعة عشر. قال زادونى.. قالوا: لعشرة خمسة عشر. قال قد زادونى.. قالوا: من زادوك ونحن تجار المدينة ؟.. قال: زادونى بكل درهم عشرة.. هل عندكم زيادة ؟.. قالوا: لا.. قال: فأُشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة»..

ولا يخفى فى القصة أن عثمانَ كان يشير إلى جزاء الحسنة عند الله بعشرة أمثالها..

ورُوِىَ من أخباره فى هذه الخصلة، أنه ابتاع بستانًا من رجل فساومه حتى قام على عثمان فالتفت عثمان إلى عبد الرحمن بن عوف فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز وجل أدخل الجنة رجلاً كان سمحًا بائعًا ومبتاعًا وقابضًا ومقبضًا، ثم زاد البائع العشرة آلاف..
* * *
وكان من حياء وسماحة عثمان، أنه كان لا يوقظ أحدًا من أهله إلاَّ أن يجده يقظان فيدعوه. وربما يصدر منه بعض ما يسوء، ولكنه لا يلبث أن يندم على بادرته ويتوب إلى الله، ويعتذر عنها. من قبيل ذلك غضبه على عمرو بن العاص حين واجهه بالزجر وهو يخطب الناس، فثارت ثورته أن يكون هو من يعظه عمرو بمثل ذلك الكلام وما فيه من إغراء بالفتنة عليه. قال عمرو: يا عثمان إنك قد ركبت بالناس النهابير وركبوها منك، فتب إلى الله عز وجل وليتوبوا.. فالتفت إليه مغضبًا وأجاب قائلاً: وأنت هناك يا ابن النابغة ؟ ثم لم يلبث عثمان أن رفع يديه وقال أتوب إلى الله تعالى. ثم كررها فقال: اللهم إنى اول تائب إليك.

فهذه شخصية سمحة، تساندت فيها مناقب السماحة، وأوشكت أن تستوفيها على مثال منقطع النظير.. كرم وحياء ودعة ورفق وأريحية ومروءة تعين على المروءات.

* * *
وربما يسهل متابعةً لجمهرة المؤرخين النعى على عثمان بالضعف والإستسلام لمن حوله، وعلى رأسهم ابن عمه «مروان بن الحكم»..

بيد أن القول بضعف عثمان صعب على من يعلم سماحته، ويعرف أن السماحة قوة لا يضطلع بها طبع ضعيف، وصعب أيضًا على من ينظر إلى جميع أعماله، فلم تكن سيرته تخلو من أعمال تدل على قوة نفس ومناعة خلق وثبات لا يتزعزع أمام الهول والخطر.

وحسبنا- فيما يرى الأستاذ العقاد- أن إسلامه نفسه كان تحديًّا قويًا لخاصة أهلة، وثبت على موقفه رغم بقاء العلية من قومه على عدائهم الشديد للإسلام ورسوله.
* * *
ولم يكن عثمان ممن يقتحمون طريقهم ويصممون عليه ويصرون على اقتحامه كلما كثر المعارضون له..

ولا كان ممن لا يعرفون العزم متبوعين أو تابعين، أو لا يثبت عليه بعد دفع الخطر، أو ينثنى عن عزمه من باب الوهن وعدم القوة على الثبات..

فلم يكن عثمان مقتحمًا، ولا كان منقادًا عاجزًا عن العزم والثبات، ولكنه كان وسطًا بين الاقتحام والانقياد لغيره فى جميع الأحوال.

إنه ينقاد ويسوغ انقياده لنفسه بمسوغ ترضاه فيما يقول الأستاذ العقاد، ولا بد له من المسوغ المرضى فى جميع الأحوال.

والفارق بينه وبين غيره، أن الآخرين ينقادون، لأندادهم أو لمن هم دونهم، وأن هؤلاء ينقادون عن ذلة وخوف، ولم يكن عثمان رضى الله عنه- كذلك.

وهنا يتوقف الأستاذ العقاد عند علاقة ذى النورين عثمان، بابن عمه مروان بن الحكم، فيورد أن إصغاءه حين يصغى إليه، كان نابعًا من كونه كاتبه وتابعه، وأنه محسوب عليه، ولم يكن هذا الإصغاء لخوفٍ أو مذلة.

ولا يفوت أن سماحة عثمان واضحة هنا أيضًا، لأنها فرضٌ كفروض الحساب لا يتأتى بغيره تقدير الحقيقة الملتبسة.

والقصص والروايات التى تصور عثمانَ على أنه كان أداةً لمروان يذهب به ويجىء كما يشاء، لازمها- إن صحت- أن يكون هذا ديدن عثمان، بينما لا يوجد ما يؤيد هذا الظن.
* * *
فالطاعة هنا، فيما يعلق الأستاذ العقاد، ليست بطاعة نفسٍ ضعيفة لكل من يوسوس لها، ولكنها طاعة اختيار وترجيح لسبب له شأن عند عثمان.

كما وأن اتباع عثمان لمشورة مروان أو غيره، لم يكن إتباعًا بالجملة أو بالكلية، وكان أشد ما يكون من قبيل الحيرة، ومن ثم فقد كانت شخصية عثمان سوية، لا تناقض فيها بين ما هو معلوم من سيرته، وإنما صادفته فتن ومعضلات ومؤثرات متضاربة ومحيرة، لم يكن له غناء عن تلمس المشورة فيها.

ويورد الأستاذ العقاد عن أثر العقيدة أنه من الواجب حين تلمس معادن الشخصية الإنسانية، أن نتثبت من معايير تقويم الأخلاق والتفرقة بين فاضلها ومفضولها، سيما فى الزمن الذى يكثر فيه الخلط بين قيمة الفضيلة وبين التعريف بأسبابها.

هذا وانتظار الجزاء بعد الموت، لا يبطل قيم الأخلاق، ولا يجعل الشجاع غير شجاع، أو الكريم غير كريم فى ميزان الخُلُق المحمود.

والعقيدة الدينية فيما يقول الأستاذ العقاد- لا تبطل سماحة عثمان ولا تغض من قيمتها، وتظل هذه السماحة سماحة مقومة فى معيار كل فضيلة ومعيار كل فاضل.

هذا وينبغى فى تقدير الفضائل والمواهب أن نفرق بين التقويم والتقدير وبين التعليل والتفسير.

فالأسباب تثبت الفضائل والمواهب ولا تنفيها.

Email: [email protected]
www.ragai2009.com

رجائى عطية

رجائى عطية

9:58 ص, الأثنين, 3 أبريل 17