ديجول فى سرديات جديدة للتاريخ الأوروبي

ديجول فى سرديات جديدة للتاريخ الأوروبي
طارق عثمان

طارق عثمان

6:28 ص, الأحد, 9 فبراير 20

فى وقت تبدو فيه السياسة الأوروبية خالية من سياسين كبار، خاصة أن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل على وشك الانسحاب من الساحة، هناك اهتمام بالسياسيين الذين صاغوا السياسة الأوروبية فى مرحلة بداية المشروع الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية. وفى هذا الإطار، صدر مؤخرًا عدد من الكتب والدراسات حول تشارلز ديجول، الرئيس الأهم فى تاريخ فرنسا.. بطل التحرير من الاحتلال النازى إبان الحرب العالمية الثانية، الرجل الذى أنهى معضلة وضع فرنسا فى الجزائر (و قد كانت فى الوجدان الفرنسى، أصعب وأعقد من مجرد مستعمرة)، والرجل الذى أعاد فرنسا إلى الساحة الدولية كقوة هامة ذات تأثير وصوت يحق له أن يُسمَع، بالرغم من أنها، واقعيا، هزمت وأحتُلَت من ألمانيا أثناء الحرب العالمية، وكان تحريرها بفضل القوة الأمريكية والتفكير البريطانى، وخاصة ذاك لرئيس الوزراء ونستون تشيرشل.

لكن ما يظهر من الاهتمام الحالى بديجول أن أوروبا تحاول، فى النظر لتاريخها المعاصر، أن ترى وتركز على المشاكل والأخطاء، وأن تخرج من فكرة تأليه بعض سياسييها. ولعل هذا التفكير والنوع من الكتابة التاريخية واقعى فى وقت يعانى فيه المشروع الأوروبى من شكوك حول أهدافه واتجاهه، وربما الأهم، قدراته.

ديجول هو المثال الأفضل لتطبيق ذلك النوع فى الكتابة التاريخية، ذلك أن الرجل، كان لعقود، فى الوجدان الفرنسى والأوروبى، عملاقا، يبدو وكأنه أتى من أعماق تاريخ بلاد «جول» (الاسم القديم لفرنسا)، حاملًا ذاك الاسم، ومُجسِدا له فى القرن العشرين.

لكن ديجول الذى يظهر من تلك الكتابات الجديدة، أبعد ما يكون عن فكرة العملاق التاريخى. نحن هنا أمام سياسى، له ما له، خاصة فى الشئون الخارجية، وعليه ما عليه (و هو كثير) فى الشئون الداخلية.

على سبيل المثال، فى الشأن الفرنسى الداخلى، نرى ديجول عاجزاً عن الاستفادة من دوره فى تحرير فرنسا ليصبح زعيماً لبلد ما بعد الحرب، بالرغم من أن هذا كان طموحه، وبالرغم من محاولات كثيرة، كان منها تأسيس حزب كان مصيره الفشل … نراه أيضًا واصلا إلى سدة الحكم بعد سلسلة من التوترات والمناوشات، بدأت من تدخلات لقيادات فى الجيش الفرنسى فى الجزائر أرادوا ان يمعنوا الانسحاب الفرنسى من المستعمرة، ولو من خلال تمرد على السلطة السياسية. ومثل ذلك الوصول إلى السلطة أبعد من أن يكون قمة النبل السياسى.

نحن نرى أيضا ديجول مثالًا للتركيز شبه المطلق للسلطة التنفيذية فى يد شخص واحد. ولعله مثير للاهتمام أنه بينما نابليون بونابرت، المؤسس الرئيسى لفرنسا الحديثة، أنشأ الجزء الغالب من مؤسسات الدولة الفرنسية واعتمد بشكل عام على عمل هذه المؤسسات، من خلال هياكل وضعتها عقول قانونية فى عهده، ديجول لم يقُم بالكثير من ذلك. على العكس، ديجول ركز صلاحيات مهولة فى مكتبه، ثم أدار فرنسا من خلال مجموعات صغيرة من الدوائر الاستشارية التى أحاطت به.

و ربما خلف كل ذلك، هناك النقطة التى تظهر جلية فى فكر الرجل: أنه رأى عمله ليس مجرد أن يحكم فرنسا وفق ما تراه الأغلبية من الفرنسيين، بقدر ما هو أن يمثل ويحاول إحياء فكرة فرنسا (كما تصورها هو). هذه النقطة كانت فى عقله لعقود طويلة منذ كان ضابطا ملحقًا بمجلس الدفاع الوطنى الأعلى فى الثلاتينيات من القرن الماضى. وقتها كان أهم ما كتب ديجول هو: مفهوم الدفاع عن فكرة فرنسا، بينما كان زملاؤه ورؤساؤه (و كان على رأسهم الماريشال پيتان، بطل الحرب العالمية الأولى على الجبهة الفرنسية، وأيضا الرجل الذى، بعد عقود قليلة، أعلن استسلام فرنسا أمام الجيوش النازية) يكتبون عن الدفاع عن «التراب الوطنى». هذا الاهتمام بفكرة الهوية والمعنى والدور التاريخى لفرنسا – وليس كيفية حكم المجتمع الفرنسى – ظل مع ديجول إلى نهاية حياته. ولعل قوله الموثق لمعاونه الرئيسى فى تلك السنوات الأخيرة فى نهاية الستينيات، جاك فوكار، شديد الدلالة: «إننى منذ الأربعينيات أحاول أن أعطى فرنسا مظهر القوة والحزم والثقة، بينما هى منهكة، يفكر مجتمعها فقط فى راحته، ويحاول الابتعاد عن المشاكل … أننى أُعطى للفرنسيين فكرة فرنسا كما هى، بينما هى لهم، ليست أى من ذلك».

كعادة مثل تلك التحليلات الجديدة التى تركز على نقاط وأولويات لم تكن فى قلب الصور التاريخية من قبل، سيخرج القراء بتصورات مختلفة عن الرجل محل النظر. هناك من سيرى فى ديجول زعيما تاريخيا، رأى أبعد كثيرًا مما رأى مجتمعه. وهناك من سيرى رجلا عاديا لا يملك مقومات فكرة العملاق التاريخى. لكن، لنا نحن، المتابعين عن بعد، الفائدة الأهم، هى رؤية كيف تستطيع وتقوم تلك المجتمعات التى تحترم عقولها وحرياتها، بفتح ملفاتها، بدون خوف، وبدون رهبة، معيدة النظر فى البدايات والطرق التى أدت إلى الحاضر. وفى ذلك الاحترام للعقول وللحريات مصل وقاية من غياهب الكذب وغيبوبات الجهل.

* كاتب مصرى مقيم فى لندن