دولة بأى ثمن

دولة بأى ثمن
طارق عثمان

طارق عثمان

6:51 ص, الأحد, 17 نوفمبر 19

دافيد بن جوريون، أو دافيد جرووين (اسمه الحقيقي)، لم يرض قط أن يتحدث بالـYiddish، لغة الجيتو اليهودى فى أوروبا طيلة القرون الوسطى. الشاب البولندى الذى هاجر إلى فلسطين عام 1906، كان دائماً مصراً على الحديث بالعبرية: ليس لأنها لغة قومه الأصلية فحسب، ولكن الأهم فى نظره، لأنها اللغة الرسمية للدولة التى أرادها لليهود فى فلسطين.

هناك عدد من الكتب حول سيرة بن جوريون. لكن مؤخراً ظهر كتابان يتناولان حياة الرجل بشكل نقدى، وتكمن أهميتهما فى أنهما من مؤرخين إسرائيليين ومعتمدين على الأرشيف الرسمى للدولة.

النقد هنا ليس لمشروع الرجل…بن جوريون كان وسيظل الأب المؤسس لإسرائيل، ليس فقط كدولة ولكن كفكرة قابلة للوجود. هذه نقطة مهمة فى الوجدان الإسرائيلى، لأن الفكرة الصهيونية التى قدمها هيرتزل (مفكر الصهيونية الرئيسي) فى نهايات القرن التاسع عشر كانت فلسفية إلى حد بعيد، ونابعة من نقاشات فى غرب أوروبا (فى إنجلترا، وفرنسا، والنمسا بالتحديد) حول مشروع سياسى لليهود، يأخذ هويتهم من بعدها الدينى والإثنى إلى إطار مجتمعى. والمعنى هنا ان هيرتزل رأى دور اليهودية فى مشروعه السياسى مجرد دور فلسفى وليس شيئاً آخر… وهو هنا مثله مثل كثيرون من المفكرين اليهود الأوروبيين فى قرون ما بعد عصر النهضة، الذين أرادوا نقل اليهودية من كونها ديناً إلى فلسفة، أو إلى تصور للكون والإله – وقد كانوا متأثرين هنا بفكر القبالة فى اليهودية.… هذه الأفكار كانت، وما زالت مبهمة لدى كثيرين.

ولذلك فهيرتزل كان ولا يزال فى الوجدان الإسرائيلى فيلسوفاً ومفكراً قدم فكرة، أو زرع بذرة…لكن بن جوريون كان من أخذ هذه الفكرة من المجرد والمبهم إلى العملى والفعلى، كان من سقى البذرة لتنبت. لذلك، فإن الرجل، فى النظرة الإسرائيلية للتاريخ، هو من أوجد الدولة.

النقد ليس للمشروع إذن، ولكن للأسلوب، لطريقة العمل، وأحياناً كثيرة، لشخصية الرجل.

الأمثلة كثيرة، ولا سيما فى كتاب توم سيجيف «دولة بأى ثمن» الصادر هذا العام. على سبيل المثال، بن جوريون لم يعمل كثيراً على بناء علاقات حقيقية مع تيارات سياسية كبرى فى أوروبا، سواء قبل أو بعد الحرب العالمية الثانية. هناك من يقولون إن الرجل رأى من بعيد سقوط الإمبراطوريات الأوروبية وصعود المارد الجديد القابع خلف المحيط الأطلنطى: الولايات المتحدة. تصورى أن هذا ليس السبب الحقيقى، وأن الرجل ببساطة، وكما تدل سيرته، رأى عمله على الأرض وليس فى صالونات لندن وباريس وفيينا وبرلين. أياً كان السبب، فهناك رأى يقول إنه ببعده عن التواجد اليهودى القوى فى أوروبا – خاصة قبل الحرب العالمية الثانية – قد فرض على المجتمع اليهودى فى فلسطين فكرة الاشتراكية التعاونية التى تطورت فيما بعد إلى تعاونيات الكيبوتز، وقد كانت لعقود العمود الفقرى للاقتصاد الإسرائيلى. وهى فى كل التقييمات، ليست تجربة اقتصادية ناجحة … (والحقيقة أن التطور الفعلى للاقتصاد الإسرائيلى جاء فى أعقاب هجرة أكثر من مليون يهودى روسى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، أغلبهم على درجات عالية من العلم فى معارف مختلفة، وكلهم جاءوا بوجدان روسى، شديد الاختلاف عن التجربة الإسرائيلية قبل التسعينيات).

مثال آخر من النقد لأسلوب عمل بن جوريون كان استعداده للتضحية بأى شىء – بما فيه تصورات فى الوجدان اليهودى لضرورة الالتزام بقيم معينة – فى سبيل خلق الدولة. النقطة هنا أن بن جوريون، على عكس الكثير من المفكرين الذين طوروا فكرة الصهيونية – لم يكن لديه شك فى حتمية الصراع مع العرب، وربما فى نظره، فى ضرورتها…أيضاً لم يكن لديه شك فى ضرورة استعمال كل الوسائل للانتصار فى هذا الصراع من أجل إيجاد إسرائيل عام 1948.

نقد آخر يدور حول رؤية الرجل لنفسه. بن جوريون رأى فى نفسه تجسيداً لإسرائيل، ولعل ذلك كان مفهوماً لرجل قضى أكثر من ستين سنة يقود مشروعاً سياسيا، رآه يتحقق شيئاً فشيئاً، واعتبر – وله فى ذلك بعض الحق – أن جهوده وراء هذا التحقق. لكن تصوره لدوره جعله يبنى حول شخصه ليس فقط هالة، ولكن أيضاً مريدين وأتباعاً، هم أيضاً اعتبروه السياسى الأول، والأهم: صاحب القرار النهائى.

والمشكلة أن ذلك التصور والوضع استمرا حتى بعد أن ابتعد الرجل عن رئاسة الوزارة. وقد أدى هذا إلى تضاربات وتعقيدات فى عملية صنع القرار فى بلد اعتبر نفسه منذ لحظة ولادته دولة ديمقراطية.

هذا النوع من الدراسات التاريخية النقدية يستحق الاهتمام، ليس فقط لأنه يفتح لنا أرشيفات تحمل الكثير من الوقائع وتقدم العديد من التحليلات، خاصة أن الدولة المعنية هنا لاعب رئيسى فى شرقنا الأوسط.. ولكن الأهم، لأنه ينظر للماضى بدون تحفظات وتابوهات كثيرة. وذلك مثال لقراءة التاريخ «بجد».