تستوقفنى كثيرًا ماهية أخطبوط شبكة التواصل الاجتماعى «فيس بوك، مايسبيس، جوجل، تويتر، يوتيوب، إنستجرام» أو ما سأطلق عليه هنا دولة (الفيس بوك)، من حيث تمحورها على هندسة الكمبيوتر وجمع المعلومات، فقوام اقتصاد هذه الدولة هو السعى خلف مزيد من المعلومات والبشر، خارج منظومة القيم أو الفلسفة أو المبادئ! بل خارج منظومة قيم ومبادئ الدستور الأمريكى نفسه، الذى تأسست هذه الدولة فى ظل قوانينه.
قد يبدو هذا المقال هجومًا على دولة الفيس بوك! وهو غير صحيح، ولكنها محاولة متواضعة لاستيعاب إحدى الأدوات المستحدثة المشارِكة فى إدارة العالم برؤية موضوعية، ومحاولة بريئة لفهم طريقة من طرق قيادة الجموع والتأثير فى النفوس، حتى نتبين ماذا نستخدم، ولماذا نستخدم، وكيف تقودنا هويتنا كمواطنين فى دولة الفيس بوك، إلى مزالق أو مهالك أو آفاق لا نحتملها، وقد نحتاج معها لترشيد وعينا فى قبولنا الجنسية الفيسبوكية أو الاكتفاء بهويتنا الحقيقية؟!
تجاوزت دولة الفيس بوك طموح كل الأديان! بأن جعلت شاشة واحدة تقود البشر بإيمان التواصل الاجتماعى، حرية التعبير، العالم قرية صغيرة، وانعدام الخصوصية! أصبحت هذه الدولة وعاء كونيًّا يستوعب (كل) الاتجاهات والغرائز والطوائف والأديان والفلسفات والأعمال وأنشطة الحكومات أيضًا. حلّت هذه الدولة الافتراضية محل الورق والكتب والتواصل الشخصي! زودت جرعات التنمر، التبجح، التفلسف، وأصبحت منبرًا للمهمّشين والأبطال والصعاليك والمُنظّرين والمهرّجين. فى منهجية مدروسة سمحت دولة الفيس بوك لرعاياها بالتكسب من عدد مشاهدات اليوتيوب والمتابعين، بغض النظر عن المحتوى أو قيمته! وفرض الأخطبوط نفسه على بحر التسويق، ليبتكر من معادلة ضخامة المستخدمين + زخم المعلومات + سهولة وحرية التواصل، نجاحًا فى تحويل اليوتيوب إلى قنوات تليفزيونية يطل منها أى شخص، من أى دين، من أى لون، جنسية، مجال، فى أى وقت، على كون كامل من البشر ليقول أو يثبت أو ينفى ما يريد وبأى لغة!
تجاوزت القيمة الاقتصادية والاستثمارية لدولة الفيس بوك- كمنصات إلكترونية- لشركات تجارية، مفهوم الربح أو الاستثمار الجيد! هل فكرت فى قيمة (آصف بن برخيا) العبد المؤمن الذى جلب لسيدنا سليمان عرش بلقيس فى طرفة عين؟ هكذا تساعد الإنترنت دولة الفيس بوك فى التغلغل بالوعى الجمعى للناس، لتحقق لهم أحلامًا لَم ولن يكونوا يتخيلونها بأى طريق عادي! فتنقلك صورة وصوتًا وحركة عبر الكرة الأرضية فى زمن صفر! تنشر كلمتك من قلمك لعين القارئ فى لحظة، بلا ورق أو مطابع أو توزيع أو رقابة أو رسوم! بل تجلب لك وتشركك بندوة وحفلة ومؤتمر وحشد وأنت بالبيجاما!
لنّكون صورة ذهنية أعمق عن خطر وتأثير ودور دولة الفيس بوك، دَعُونا نتخيل ماذا كان يحدث لو عاصرت هذه الدولة نشر أخبار العشاء الأخير للسيد المسيح عليه السلام؟ أو جوبلز وزير دعاية هتلر كان له صفحة فيها؟ ماذا لو أسس يهود موسى عليه السلام” جروب” خاصًّا؟ أو كان لقوم لوط غُرف سرية للدردشة؟ هل كان الوضع سيفرق مع نيكسون فى فضيحة ووترجيت لو نشر صحفيوها بوستات تمهيدية؟ بِم كان سيغرد هتلر ضد إنجلترا وروسيا؟ هل كان سينتشر الإسلام أكثر لو كان للأئمة الأربعة قنوات على اليوتيوب؟ ماذا لو نشر الأرمن صور فظائع الأتراك على الإنستجرام فى وقتها؟ هل لو كان لعباس العقاد؛ أول مترجِم عربى لبروتوكولات حكماء صهيون، مدونةٌ نشر عليها الكتاب كانت أمورٌ كثيرة لتتغير اليوم؟
غيرُ خافٍ أن الفيس بوك هو البطل الخفى لثورة تونس وثورة 25 يناير المصرية! فنحن بصدد آلية متقدمة جدًّا نجحت فى ترجمة الوعى الجمعى لحظيًّا إلى صوتيات ومرئيات، تتحكم فى توجيهه أصابع رؤى، بهندسة برمجيات وخبراء وعى جمعى لا ينامون! ببساطة، أصبحت دولة الفيس بوك التطور العبقرى لفكرة “هايدبارك” فى لندن/ إنجلترا، رائدة الاستعمار والتلاعب العالمى والدولة الوحيدة فى العالم التى ليس لها عيد استقلال!؟ اكتب ما شئت، انشر ما شئت، فكله مسجل ومراقَب ومحلل! تداولُ أذرعِ الأخطبوط صورَ جورج فلويد الأَسْود فى أمريكا نشّط حركات مناهَضة العنصرية فى فرنسا وإنجلترا وغيرهما! الموضوع تجاوز التواصل الاجتماعى للتعارف والدردشة، إلى صناعة منظمة للرقيق الأبيض، السلاح، المخدرات، الانتخابات، جمع الأموال، التسول الدينى، تهييج الجماهير، صلة الرحم، تجارة شركات تحت السلم.. إلخ.
القضية أن دولة الفيس بوك نجحت فى تطوير وتدجين وعى جمعى عالمى جديد، قابل للتوجيه والتحريك والتسخين والكسب المادى السهل أيضًا! أصبحت مراجعة صفحتك ومدونتك وبوستاتك وصورك فى كيانات الدولة، لتحديد هويتك وميولك واتجاهاتك أمرًا أساسيًّا فى الحصول على تأشيرات السفر، تحريات الزواج، الوظائف الجديدة، معلومات استخبارية، وغيرها من أمور أخرى، اللافت أن القائمين على أمن هذه الدولة «العالمية»، مِن العبقرية بأن يجعلوه آمنًا مخترقًا من الجميع للجميع، تحت نظر وإشراف الدولة وحدها!
* محامى وكاتب مصرى