درس من جوناوى!

محمد بكري

9:03 ص, الأثنين, 26 أكتوبر 20

محمد بكري

محمد بكري

9:03 ص, الأثنين, 26 أكتوبر 20

بعد أسبوع بالجونة / غردقة، لم أكتف بالاستمتاع بتميزها، ولكنى سعيت لمعرفة سره.

سر نظرة واثقة فى عيون أفراد أمن الشوارع والمباني، سلوك ملتزم لسائقى التوكسى (توكتوك)، التزام للبائعين فى المحالّ، ابتسامات تلمع وسط إرهاق الاستعداد لمهرجان الجونة، لهجة حاسمة مخلوطة بتفهم من كبار موظفيها، نظافة مستمرة بدون عمال، إحساس بالأمن بدون سيارات شرطة.

ورغم مصادفتى للعديد من الآراء الشاكرة لموقعها ومساحتها وطابعها المعمارى المميز وخدماتها وسكانها والمستوى ومميزات وجود أجانب بها إلخ، لكننى اعتبرتها توثيقًا للظاهر، لم تجاوب فضولي، ولتزجية وقت العودة فى إحدى سيارات الجونة، كان سؤالى للسائق المقيم بها وعائلته من 12 سنة! عندما بادرته (ما سر تميز الجونة؟)

قال السائق بصوت مُدرب ومقتنع (أنا كجوناوي، دى بقت بلدي، بيتى وأكل عيشي. فيه أكثر من 20 ألف عائلة تعمل هنا من مختلف المحافظات، يحكمهم قانون واحد! التزم.. تستمر، اغلط.. تُحاسب. اغلط ولن تدخل الجونة مرة أخرى! ستسجل المخالفة على الكمبيوتر، ستوقع وتبصم على إقرار بذلك، يبلغ اسمك للبوابات وتُمنع من الدخول. الخروج من الجونة عندنا بقى زى الخروج من الجنة! ومش مبالغة حضرتك، سنوات المكان وسكانه وتقاليده وجوه، فرضوا حياة منظمة كلنا اتفقنا عليها بدون اتفاق! لا تلوث بصرى ولا سمعى ولا سلوك فج، كله بيحاول يحافظ عليها ويزودها.

من بدايتها سنة 90 وكان فيه مديرين اجانب وضعوا قواعد كتير وتعليمات، بقت القانون اللى بيوقع عليه أى عامل جديد هنا ويمشى على الجميع، مفيش عندنا كبير وصغير. كل عامل أو موظف عارف إنه ما دام صح وعلى حق فالشركة والإدارة تسنده، ولو الضيف أو المالك غلط، الإدارة بتعرف تحافظ على عمالها قدامه.
كلنا عارفين، طول ما التزمنا استمرينا، والغلطة بفورة.. وظروف الشغل والحياة تخلينا نحافظ عليها أكتر).

لم اقاطع السائق المتحمس، وأخذت أترجم رؤيته لمحاور نجاح! فسألته (هل معنى كلامك أن قانون الثواب والعقاب هو سبب نجاح الجونة؟ مع أن القانون ده مفترض واحد وسارى فى كل مكان).

ابتسم السائق وقال بهدوء (المشكلة مش فى وجود القانون حضرتك، المشكلة فى جدية تطبيقه على الجميع. الإدارة عندنا بتحافظ على المكان بجد، تطبيق القانون لوحده بدون وجهة نظر، ممكن يكون خراب، حقيقى عندنا أخطاء، بس الغلط مش بيتكرر، على الأقل على مستوانا كعمال وموظفين وإداريين. الجونة تركيبة ذكية من دماغ أصحابها واعتبارها بيتهم بيخافوا عليه، وخبرة وناس بتفهم فى الإدارة بجد وضعت قواعد ماشيين عليها، وظروف معيشة متكاملة بتصبرنا على اللى بره.

حضرتك لما بنزل مع بناتى الغردقة وخلصوا كيس الشيبسى، بيدوروا على سلة مهملات يرموا البلاستيك فيها، زى ما بيعملوا عندنا. طبعًا قرايبهم هناك بيرموا فى الشارع عادي! فإذا كان فهمنا للحياة فى الجونة بالشكل ده، واحنا السواقين والعمال والفنيين والموظفين، تفتكر الوضع يكون إزاى مع الملاك والمستأجرين اللى فاهمين؟ حلاوة الجونة حضرتك أن اهتمام الملاك ومسطرة الإدارة وتطبيق القانون، نجحوا ينقلوا لنا إنها بلدنا، مش بس الطبق اللى بناكل فيه).

سرحت مع حديث السائق الجوناوى المتدفق اقتناعًا وحماسة، ورغم أن أى مشروع له سلبيات وايجابيات واخطاء ومميزات، فإن ملخص درس الجوناوى كان «أن اهتمام الملاك ومسطرة الإدارة وتطبيق القانون، نجحوا ينقلوا لنا انها بلدنا، مش بس الطبق اللى بناكل فيه» وطالت السرحة لاستعادة ايام اللجان الشعبية فى أحياء القاهرة أيام 25 يناير، وحالة اليقظة والأمن والنظافة والنظام والاحترام، التى سادت بين الجيران واهالى المناطق. كان اهتمام ملاك الوحدات والسكان والجيران، بالمحافظة على حياتهم وأمنهم، ما جعلهم يدًا واحدة لإدارة الازمة، وكان تطبيق قانون الحماية والأصول هو السند الذى حفظ للعديد من الشوارع وجودها واستمرارها.

منظومة الجونة، مختلفة عن العديد من القرى والمنتجعات والكومباوند المنتشرة فى القاهرة والجيزة وخارجهما، رغم العديد من المظاهر المشتركة، بما فيها لوائح القرى أو المساحات، لكن تجربة الجونة تحمل معنى نظامياً أكثر، لتعدد المرافق التعليمية والصحية والترفيهية والحكومية والسياحية بداخلها. الجونة 40 كم، كأحياء القاهرة شبه الكبرى، ومع ذلك فنحن القاهريين لا نتعامل مع المكان بتلك الجدية، ولا تطبيق القانون بنفس المعنى، ولا انتماؤنا بنفس الروح!

فهل لو أديرت الأحياء بنفس المنهج ستتغير الأمور؟ هل إحساسنا بأن أحياء القاهرة بلا صاحب ولكن يديرها بيروقراطيون، يجعلنا نتفنن فى معرفة الأكبر من الكبير ثم الأكبر لحل مشاكلنا، حتى لو كنا على خطأ؟ هل طبقة ملح الأرض من العمال والفنيين والموظفين والكادحين، فى غياب اهتمام الملاك ومسطرة الإدارة وتطبيق القانون، جعلتهم يخترعون قوانينهم الخاصة؟ هل غياب (عشرة الخواجات) وثقافتهم كالماضي، جعلنا نبروز أخطاءنا ونكتفى بصراع الحياة؟ هل لأن غياب الخوف أو الردع بعقاب إخراجنا من جنة اماكننا، ما جعلها نارًا نوقد منها صبرنا وبحثنا عن عدالة اجتماعية جادة؟

هل فعلاً يمكننا تحويل مناطق أو أحياء معينة بمنهجية الجونة، لنكون أحياء بجد؟ الإدارة موجودة، القوانين ما أكثرها، التعليمات منتشرة، ولكن المهم التطبيق الجاد، روح المُلاك فى العناية والمحافظة، مسطرة الإدارة الواعية بالصالح، تطبيق القانون للأصلح لا للأنفع.

تجربة الجونة أثبتت نفسها فى معالجة الأخطاء والمخالفات، بإدارة فن الاستمرار وليس فقط إظهار الجمال، فما أكثر الجمال الساتر للعيوب، الذى قد يجعلنا بدرس الجوناوي، نتأمل حالنا من جديد.