مصر تناقش قانونا جديدا يعزز استقلالية «الكيان»
حددت دراسة صادرة عن صندوق النقد العربى حول استقلالية البنوك المركزية، 6 مؤشرات يمكن من خلالها الحكم على مدى تمتع البنك المركزى فى أى دولة بالاستقلالية على المستوى السياسى والاقتصادى والقانونى، ومدى تدخل الحكومات التنفيذية فى أعمال البنوك المركزية.
وعرفت الدراسة استقلالية البنك المركزى بأن يكون مفوضا بالعمل على تحقيق الأهداف المنوطة به، وأن يكون بالتالى مستقلا عن الدولة فى إدارة السياسة النقدية، حرصا على عزلها عن الزخم السياسى.
وأول مؤشر يمكن من خلاله الحكم على استقلالية البنوك المركزية هى الجهة المسئولة عن السياسة النقدية، حيث تشير الدراسة إلى أن استقلالية البنك المركزى ترتفع لتبلغ أقصى مستوياتها كلما كان للبنك سلطة حصرية فى رسم السياسة النقدية، وتتدرج لمستويات أقل فى حالة ما إذا كان للبنك المركزى تأثير ضئيل فى رسم السياسة النقدية، وتنخفض فى حالة ما إذا لم يكن للبنك تأثيرا فى رسم السياسة النقدية، وإنما ينحصر دوره فقط كمستشار للحكومة، وتنعدم حالة كون البنك المركزى ليس لديه أى تأثير على الإطلاق فى رسم السياسة النقدية.
وقالت الدراسة إن استقلالية البنك المركزى تزداد فى حال ما إذا كان هدف البنك الرئيسى هو تحقيق الاستقرار السعرى، وكان للبنك الحق فى اتخاذ القرار المناسب حال تعارض تحقيق هذا الهدف مع الأهداف الاقتصادية الأخرى.
وتتدرج إلى مستويات أقل فى حالة ما إذا كان الاستقرار السعرى هو الهدف الوحيد للبنك المركزى، لكن لدى البنك المركزى تأثير ضئيل فى اتخاذ القرار فى حال تعارض تحقيق الهدف مع أهداف اقتصادية أخرى، أو حالة ما إذا كان هدف الاستقرار السعرى من ضمن مجموعة أهداف أخرى متوافقة مع الاستقرار السعرى يسعى البنك المركزى إلى تحقيقها.
فيما تنخفض مستويات الاستقلالية كلما كان هدف تحقيق الاستقرار السعرى يقع من بين أهداف البنك المركزى ضمن مجموعة أخرى من الأهداف قد تتعارض مع بعضها البعض مثل معدل البطالة، أو فى حالة ما إذا البنك المركزى ليس لديه هدف صريح معلن عن الاستقرار السعرى، أو إذا لم يتضمن قانون البنك المركزى بالأساس هدف الاستقرار السعرى كهدف للبنك المركزى.
ترتفع استقلالية البنك المركزى فى حالة عدم وجود تمثيل حكومى فى مجلس إدارة البنك المركزى، وتنخفض فى حالة ما إذا كان التمثيل الحكومى يشترط موافقة الإدارة التنفيذية فى البنك المركزى، أو فى حال عدم وجود قاعدة عامة تقيد تمثيل الحكومة فى مجلس إدارة البنك.
وتبلغ استقلالية البنك المركزى وفق هذا المؤشر الفرعى أقصى مستوياتها فى حالة ما إذا كان القانون لا يسمح مطلقا بتمويل البنك المركزى للحكومة، وتنخفض قليلا فى حال وجود حدود مسموحة للتمويل حتى %15 من الإيرادات الحكومية، وتنعدم فى حالة عدم وجود حدود قانونية تقيد التمويل بالعجز.
تزداد استقلالية البنك المركزى بحسب هذا المؤشر الفرعى فى حالة كونه غير مسموح للبنك المركزى ببيع وشراء الأوراق المالية فى السوق الأولية، وتنعدم فى حالة ما إذا كان يسمح بذلك.
بالإضافة إلى المكونات سابقة الذكر، هناك مكونات أخرى لا تقل أهمية للحكم على مدى استقلالية البنوك المركزية تتمثل فى الفترة لتى يقضيها مجلس الإدارة، حيث تشير الفترات الأطول (التى تفوق 5 سنوات) إلى المزيد من الاستقلالية، علاوة على درجة مشاركة البنك المركزى فى إجراءات إعداد الموازنة.
وقالت الدراسة إنه يقصد باستقلالية البنك المركزى أن يكون البنك مفوضا بالعمل على تحقيق الأهداف المنوطة به، وأن يكون بالتالى مستقلا عن الدولة فى إدارة السياسة النقدية وذلك حرصا على عزلها عن الزخم السياسى.
وهناك عدد من المقومات التى يتطرق إليها مفهوم الدراسة، مثل الاستقلالية السياسية التى تعنى – وفق عدد من الأدبيات الاقتصادية – أن يكون تعيين وعزل محافظ البنك المركزى وأعضاء مجلس إدارته ليس من بين صلاحيات رئيس الحكومة، وألا يكون رئيس الحكومة عضوا فى مجلس الإدارة، كما تقيد الاستقلالية السياسية مستوى التمثيل الحكوى فى مجلس إدارة البنك المركزى ومدى تدخل الحكومة فى قرارات البنك، فيما تقيد الاستقلالية الاقتصادية من قدرة الحكومات على الحصول على التمويل من البنك المركزى.
وفى هذا الإطار تبرز أيضًا أهمية التفرقة ما بين الاستقلالية القانونية التى تمثل الإطار الحاكم لاستقلالية البنوك المركزية وفقًا لما هو منصوص عليه فى القوانين المنظمة لعمل البنوك المركزية، وما بين الاستقلالية الفعلية وفق الواقع العملى والصلاحيات التى يمارسها البنك تحديد ورسم واستخدام أدوات السياسة النقدية بما يعكس مدى استقلالية البنك المركزى عن الحكومة وإلى أى مدى يتبنى البنك سياسة نقدية مستقلة، وبحيث ينطبق ما ذكر فى قانون البنك مع استقلاليته على أرض الواقع.
وفى حال ما تحققت الاستقلالية، فإن ذلك يقود أيضا إلى الاستقلالية الاقتصادية والمالية والتشغيلية، وتنشأ تبعية البنك المركزى عندما تعانى الدول من عجز كبير فى الموازنة العامة ولا تجد السلطات المالية وسيلة لتمويل هذا العجز بعد استنفاد كل الوسائل البديلة الأخرى مثل الاستدانة من الخارج، وعدم وجود موارد حقيقية تساعد فى سد العجز.
وشددت الدراسة على أن هناك أهمية بين تعزيز استقلالية البنوك المركزية والاستقرار الاقتصادى، حيث تمكن الاستقلالية، البنوك بشكل جيد من تحقيق الاستقرار السعرى، وتجنب تعارض الأهداف التى يسعى إلى تحقيقها، والتغلب على الهيمنة المالية للحكومة على عمليات البنوك المركزية.
وأضافت أن الاستقلالية توفر قدرًا أكبر من الشفافية وتساعد على مساءلة البنوك المركزية عن مدى نجاحها فى تحقيق أهداف السياسة النقدية وكلها عوامل معززة للاستقرار الاقتصادى.
علاقة عكسية مع معدلات التضخم
وتطرقت الدراسة إلى دراسات تطبيقية أجريت فى السبعينيات من القرن الماضى والتى خلصت إلى أن هناك علاقة عكسية ما بين استقلالية البنوك المركزية ومعدلات التضخم لا سيما فى البلدان المتقدمة، حيث أثبتت دراسة حول مؤشرى الاستقلالية السياسية والاقتصادية والسياسية للبنوك ومعدل التضخم فى 18 دولة، أن زيادة الاستقلالية بنحو نقطة واحدة فى فترة السبعينيات خفضت التضخم بنحو 1.2 نقطة و0.6 نقطة على التوالى.
وكشفت دراسة حديثة صدرت العام الحالى بتحليل العلاقة بين استقلالية البنوك المركزية ومعدلات التضخم فى 118 دولة نامية بين عامى 1980 و2013 أن المعدلات الأعلى من استقلالية البنوك المركزية ترتبط بمعدلات تضخم منخفضة، ويكون التأثير أقوى فى حالة الدول الأكثر ديمقراطية.
وتناولت الدراسة سعى العديد من البنوك المركزية حول العالم لتعزيز استقلاليتها فى ظل وجود خلافات بين رؤساء الدول وبعض محافظى البنوك المركزية حول القضايا الاقتصادية.
وأوضحت أن البنك المركزى الألمانى الذى أنشئ عام 1957 من أكثر البنوك المركزية استقلالية على مستوى العالم وفقًا لنصوص الدستور الألمانى، بجانب البنك المركزى الأوروبى الذى تأسس عام 1998 لا سيما فى الفترة التى سبقت الأزمة المالية العالمية 2008، حيث نجح فى الحفاظ على معدلات تضخم فى منطقة اليورو خلال العشرين عامًا الأولى من تأسيسه عند مستوى %1.7.
أزمة الديون السيادية الأوروبية قضت على الحدود الفاصلة بين السياستين المالية والنقدية
مع ظهور أزمة الديون السيادية واضطرار البنك المركزى الأوروبى إلى التدخل بشراء الأوراق المالية الحكومية لمنع تصاعد الأزمة، أصبحت البنوك المركزية فى منطقة اليورو الدائن الأهم للحكومات، واختفت الحدود الفاصلة ما بين السياسات النقدية والمالية، وظهرت تساؤلات حول مدى استقلالية البنك المركزى الأوروبى.
وفى الولايات المتحدة -كما أشارت الدراسة- يتمتع الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى بدرجة عالية من الاستقلالية كما هو منصوص عليه فى مسودة قانونه الذى صدر عام 2013، ويعتبر هو البنك المركزى الأكبر تأثيرًا على مستوى العالم فى ظل ارتباط عدد كبير من العملات بالدولار الأمريكى الذى لايزال يشكل العملة الدولية الأكثر استخدامًا عالميًا.
وتطرقت الدراسة إلى البنك المركزى الإنجليزى الذى يعتبر مستقلا منذ عام 1694 ويهدف لتعزيز الرفاه الاقتصادى من خلال تحقيق الاستقرار المالى والنقدى، وفى اليابان تأثر بنكها المركزى ببعض التدخلات الحكومية قبل عام 1998 ولكن عقب مراجعة القانون حدت من هذه التدخلات وحصل على بعض من استقلاليته، وكان قبل ذلك توافق الحكومة على ميزانية المصروفات والإيرادات الخاصة بالبنك.
وعلى مستوى الدول العربية تناولت الدراسة النموذج المصرى وصياغة قانون جديد للبنك المركزى يهدف إلى تعزيز استقلالية وحوكمة البنك المركزى، وقالت إن البنك المركزى يضع أهداف السياسة النقدية بالاتفاق مع الحكومة، وذلك من خلال مجلس تنسيقى يشكل بقرار من رئيس الجمهورية.
وحددت الدراسة عددا من التوصيات التى تعزز استقلالية البنوك المركزية.
أهمية السعى نحو المزيد من دعم استقلالية البنوك المركزية
وشددت الدراسة على ضرورة الحفاظ على المكتسبات المحققة فى السنوات السابقة على مستوى استقلالية البنوك المركزية ومنحها الصلاحيات الكافية للقيام بالمهام المنوطة بها خاصة فى ظل اتساع نطاقها لتشمل مهام جديدة من بينها ضمان الاستقرار والشمول المالى.
يعتبر وجود قانون خاص بالبنك المركزى الداعم الرئيسى لاستقلالية عمل البنك المركزى بما يضمن تحقيق الأهداف الكلية للبنك المركزى، مثل تحقيق الاستقرار فى المستوى العام للأسعار، بما من شأنه أن يؤسس لاستقلالية فعلية تسهم فى تحقيق الاستقلالية المالية والتشغيلية فى الوقت نفسه.
تسمح استقلالية البنك المركزى بوجود إطار يضمن التنسيق الفعال ما بين السياستين النقدية والمالية ويحول دون هيمنة السياسة المالية على السياسة النقدية وتمويل عجز الموازنة العامة من موارد حقيقية قابلة للاستدامة، وحصر دور البنك المركزى فى تقديم التمويل للحكومة وفق ضوابط محددة بما يتناسب مع أفضل الممارسات حتى لا يتسبب ذلك فى رفع معدلات التضخم والإضرار بمصداقية البنوك المركزية والتأثير على آليات السوق بما يحول دون التوزيع الكفء للموارد الاقتصادية.
ولذلك فإن التنسيق الفعال بين السياستين المالية والنقدية يعد أمرًا ضروريًا لضمان الاستقرار ودعم النمو الاقتصادى ولاسيما التنسيق بينهما فيما يتعلق بأطر إدارة السيولة المحلية وصياغة إستراتيجيات الدين العام.
مع توفر الأطر القانونية التى تدعم استقلالية البنوك المركزية، فإن ممارسة هذه المصارف لدورها فى تحقيق الأهداف المنوطة بها يتطلب السعى نحو المزيد من الشفافية فى التعامل مع الفاعلين الاقتصاديين، خاصة فى البنوك التى تتبنى سياسة استهداف التضخم بما يساعد على التأثير الفعال على توقعات التضخم، وبالتالى نجاح البنك المركزى فى بلوغ المستهدفات المحددة.
من الأهمية بمكان مواصلة بذل الجهود الوطنية المتعلقة بتعزيز حوكمة المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية، بما يواكب المستجدات والتطورات وأفضل الممارسات الدولية، وهو ما يستلزم تعزيز دور مجالس إدارات هذه البنوك، واللجان المنبثقة عنها لا سيما فيما يتعلق بلجان التدقيق، وإدارة المخاطر، والامتثال، وبالتالى تمكين مجالس الإدارات من القيام بالأدوار المنوطة بها بكفاءة وفعالية تعزز من مصداقيتها واستقلاليتها.