السؤال الخالد هو، لماذا يتفرد أو يتوهج أو حتي ينجح المصري خارج المجتمعات العربية، علميا ورياضيا وتجاريا وسلوكيا؟ هل لانخراطه بمجتمعات لها نظم فعالة، أم لقسوة الغربة واحتراف فن البقاء، أم حرية الفكر والإبداع ودعم المواهب، أم وجود أمان مالي يكفل له المنافسة ومجازاة عرقه بعدالة، أم لتواصله مع منظومات تدرس جدوى البشر على أراضيها؟ بمعنى آخر هل المشكلة في المجتمع أم البشر أم النظام أم الوعي الجمعي؟
لدينا زخم موثق لنجوم مصرية تتلألأ في سماء العالم، عشرات المعلومين وآلاف المجهولين والنتيجة واحدة! يحترم القانون، ملتزم ضريبيا، متعايش مع الآخر ومحترم خصوصيته، متوافق مجتمعيا، معتدل دينيا إلخ. فهل تطور هذه المجتمعات في دراسة جدواها ذاتيا، وتَتْرِيس المصري (جعله ترسا) بمصانعها، يصبغ شخصيته بمعايير وشروط نجاح دراسات جدوى استثماراتها في البشر والحجر؟
هل آفاتنا تصدير نجاح المصريين للخارج واستبقاء وتربية المحاولات المبتسرة بالداخل، تفعيلا لقاعدة مات الملك عاش الملك؟ تعودنا النظر لدراسات جدوى المشروعات المادية، وقلما نعتبر دراسة جدوى البشر أو نعاملهم كمشروع يحتاج بدوره شروط ومعايير نجاح دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية والقانونية والتشغيلية والزمنية!
دراسة جدوى الإنسان في أي علاقة أو وظيفة أو عمل أو كناخب أو عضو مجتمع، تحتاج لتقييم موارده من القيم والمعرفة والعلاقات والذكاء العاطفي، كُلفته وفائدته ومردوده لغرض التقييم، صفته ومصلحته وقابليته للتفاعل مع نظام قانوني اجتماعي يضمن حقوق والتزامات أعضائه، قدرته الفعلية علي تلبية الاحتياج له، نسبة إدراكه لمعطيات قضايا ومشاكل ما حوله، وعيه بقيمة الزمن وتنظيم الوقت، استيعابه لحقيقة معنى العمل والتكلفة والمال والكسب والدخل، مفهومه وقابليته وتعامله مع التغيير والتطور، معرفته بإمكانياته وقوته الضاربة وضعفه وأثر ذلك على حاجة العلاقة له، تآلفه مع مبدأ الثنائية وفريق العمل، فهمه لفكرة الدولة والنظام والقانون، موقفه من معنى وأشكال القوة وكيفية اقتضاء حقه، تقييم وعيه بالتاريخ وأهمية الحاضر في تشكيل المستقبل، تحديده لأولوياته وكيفية تنفيذ خياراته، تعريفاته لمعايير النجاح والفشل واعترافه بدوره في تحقيقهما، استيعابه لمفهوم وأثر الثقافة والفن والإعلام والدين والتعليم في تشكيل وعيه.
من خلال رصد معطيات الدراسة السابقة، يثبت أن تقوّلنا بالاستثمار في البشر يُترجم بالمظاهر وشهادات التدريب بخلاف مفهوم الاستثمار في الإنسان، المحتاج لدراسة جدوى شعب مصر ذاته، للنجاح بالجمهورية الجديدة مثلا! فقوام جدوى أي مشروع التأكد من أنه ممكن قانونيًا وتقنيًا وكذلك مبررًا اقتصاديًا، وعليه يستحق الاستثمار أم لا؟ لذا فدراسات جدوى الاستثمار بمصر، قد تتفاعل مع المكان والزمان ولا تسعفها النظم والإنسان!
تتكشف جدوي الإنسان في أي علاقة أو موقع وقابليته للاستثمار فيه، بافتراض توجيه هذا الاستثمار لتطوير ما هو موجود ككل لا تنمية عنصر أو أكثر فقط، وإلا فوجئنا بتطورات موجهة وبروباجندا استهلاكية لا تنمية بشرية حقيقية. فما قيمة تدشين أكاديميات ومبادرات وبرامج ومنح شهادات تدريب، والمتدرب معتل دينيا أو مشوش ثقافيا أو مبقور ماليا أو مستنزف عمليا أو متمرد اجتماعيا أو فاسد أخلاقيا أو مبتز جماعيا؟
من هنا تظهر أهمية فكرة دراسة جدوى شعب مصر، بزمن حرج يزخر بفوران من التغيرات المحلية والإقليمية والعالمية. لذلك من الخطر الادعاء بجدوى الاستثمار بمصر كموقع وموارد طبيعية، بدون احتساب البشر بمعطيات الدراسة! فمفهوم الشعب يغطي مجموعة تعيش في إطار واحد من الثقافة والعادات والتقاليد ضمن مجتمع واحد وعلي أرض واحدة، هذا الإطار تتشكل أركانه من نظام سياسي وقانوني، تعليم، دين، إعلام (ثقافة وفن وإعلام)، ومن الخطأ الادعاء بأن الشعب هو من يضع الإطار، لأن إدارة الدولة هي المسؤولة عن تصميم الإطار وفقا لدراسة جدوى الشعب، ليأتي محتواه مُعبرا ومترجما لنجاح خطط مشروعاتها على الأرض.
علي صعيد آخر، ما ينطبق علي دراسة جدوي شعب ينصرف بالضرورة لدراسة جدوى إطاره وصناع محتواه، فالتمسك بعبقرية ووحدوية الإطار وتجميد دراسته، يجعلنا دوما نحصل على نفس النتائج من انفصال الفهم والتعاون والتقدير والدعم بين الشعب وإطاره! فمتابعة وجود المصري منذ فجر تاريخه، تشير لعلاقة مضطربة بينه وبين الحاكم والنظام والقانون، مرجعيتها أجنبية الحاكم حتى محمد نجيب أول رئيس مصري! فكان النظام والقانون هما عصا الحاكم، ضد نضال المصريين دوما ضد القهر والاستبداد والسخرة والمحسوبية والفساد، ليصبح التمرد والرفض والجدل والمقاومة، عناوين للوطنية ومغناطيس التكاتف ضد فوقية الإدارة وقيادة مصالح طبقتها للشعب.
مع إعادة تشكل النظام العالمي بعد كورونا وبدأ عصر الفيروسات تقليصا للبشر وآثار حرب روسيا وأوكرانيا، علي الاقتصاد العالمي وبوادر الكساد والمجاعة وتخلخل عالم ما نعرفه، ستكون الحاجة ماسة لدراسات جدوى الشعوب عموما لا بيئات العمل فقط، واستحداث معايير جديدة لملاءمة الشعوب للأُطر الجديدة ووضع خطط ومناهج مبتكرة لتفعيل جدوى وجودهم! وكما فرضت كورونا قسرا علي شعوب العالم تدابير احترازية غير تقليدية استغرقت سنتين لتعديل سلوكهم ومفاهيمهم، ستكون الأوضاع الجديدة بداية عهد جديد لمفهوم حتمية دراسة جدوى الشعوب والحكومات، وأدوات حكمها المشكّلة للوعي الجمعي كالتعليم والدين والإعلام والثقافة والقانون.
تعبير الدولة الفاشلة يُستخدم للدول العاجزة عن الوفاء بواجباتها تجاه مواطنيها، فتتراجع كفاءة المؤسسات وتنهار الخدمات ويغيب الأمن والجيوش أو تتحوّل لجيوش فئات ونظم لا جيوش دول وشعوب، وبالتالي لا مجال للقول بوجود مجتمع فاشل لدولة ناجحة، أو مجتمع ناجح لدولة فاشلة! لأن العلاقة بين الطرفين تحكمها دراسة جدوى مشروع وجود الطرفين معا لتحقيق دولة ناجحة! (من آثار نكسة ٦٧ وانتصار ٧٣، غرق الشعب عقودا في استثمارات استهلكت بطنه لا إنتاجية عقله، فعطّنت جدوى مستقبله لأكثر من ٤٠ سنة، بالإدارة بالأزمات وصناعة المصالح وفوضى وتهرؤ الأُطر).
تحتاج مصر مرحليا دراسة جدوى حقيقية لمكونات دولتها، فتطورات البنية التحتية والمشروعات العملاقة ودعوات الاستثمار…. إلخ، بدون تقييم وتحديث موضوعي واقعي لأركان إطارها، سيجعله دوما عصا الإدارة لقيادة شعب تحمل جيناته التمرد و”خالف تُعرف” والوطنية المنتحلة.
دراسة جدوى شعب مصر، دعوة مفتوحة لنحت مبدع لطريق شائكة، تحتاج رؤية وقرارا وفريقا ونية مخلصة لاستكمال إنجازات الحجر لعمارة البشر، باستثمارات تحقق جدواه لا استمرار استنزافه.
محمد بكري