دراسة جدوى السيرك المصري!

دراسة جدوى السيرك المصري!
محمد بكري

محمد بكري

7:23 ص, الخميس, 2 يونيو 22

السيرك المصرى من أخطر المؤسسات الحكومية التى تحتاج إلى دراسة جدوى حقيقية لشعبه، كمثال للمشروعات الحكومية الزاخرة بتاريخ مأزوم لحاضر مرعوب من المستقبل! تاريخ ومشاكل شعب السيرك متاحة على الإنترنت للبحث والمراجعة، وكلها معلومات طرحتها بكل أمانة لأحد المستثمرين الأجانب، الذى أعرب عن رغبته للاستثمار فى تطويره. ولتحفيزه أخبرته بخطط وزارة الثقافة لنقله لمساحة أكبر بمدينة 6 أكتوبر، وتجديد معداته وشراء حيوانات جديدة إلخ، ولكنه فاجأنى بسؤال عن مدى توافر دراسة جدوى للسيرك المصري، وبالأخص دراسة عنصره البشرى من إداريين ولاعبين وفنانين ومساعدين ومسئولين حكوميين يتبعهم النشاط؟

وما موقف شعب السيرك من منافسة القطاع الخاص، وتطورات السيرك الروسى والصيني، وقناة ناشيونال جيوغرافيك، وألعاب الفيديو والواقع الافتراضى ووسائل التواصل الاجتماعي، واقتناء أثرياء المصريين والعرب للحيوانات المتوحشة، والموجة الجديدة لأفلام ديزنى والحركة، وفقرات السيرك الأجنبى بالقنوات الفضائية، وكلها تنقل تجربة السيرك للحياة الواقعية، وتفتح وعى الجمهور المصرى حتى بالأرياف، على الأفضل والمتطور والأبهر عالميًا! وأثر كل ذلك على ثقافة ووعى وإمكانيات إدارة ولاعبى السيرك وتطوير ذواتهم فى علاقتهم بالتدريب والأداء والجمهور وقدراتهم التنافسية.. وانعكاس كل ذلك على رؤية الجهة الإدارية لمفهوم السيرك، وجدوى وجوده وقيمة شعبه وأهمية منافسته فى عالم جديد قاسٍ؟

فهل يستثمر أمواله فى اسم وتاريخ وتراخيص السيرك، ويشيد بنية تحتية، ليستفيد منها شعبه منتهى الصلاحية والمطحون ماديًا والمهمل إداريًا والمأزوم صحيًا والفقير تدريبيًا والمعتل حكوميا، لتشع الأنوار على نفس الكوادر، بذات الفكر والإدارة، وبالتالى يذهب استثماره أدراج الرياح؟ أم يشيد ويجدد البنية التحتية والإمكانيات لشعب بديل تثبت جدواه باستيعابه للزمن، والتطور، وحتمية التغيير، والمنافسة؟ أوضح المستثمر أن أى استثمار يرتبط بمنظومة وبيئة وجودة وعمل منفذى المشروع، وظروف تواجده وسوقه وحجم الطلب عليه ورؤية الإدارة لقيمة وجوده. هذه الرؤية هى ما تفرز القوانين واللوائح والدعم والتدريب والتامين والتطوير، بصورة تضمن للمشروع التواجد، والنمو، والاستقرار، والنجاح.

ومن واقع المعلومات المتاحة على الإنترنت، فشعب أو أهل السيرك المصري، مطحون بين زمن وتطور أسبق من إمكانياته، وإدارة فنية تعيش أمجاد التراث بحاضر متهالك، ووزراء كانوا يرون أنه (فن موالد)، أقل بكثير من قيمة أرضه بنيل العجوزة، فأخليت خيمته ونُقل لأكتوبر لتستثمر الأرض بالملايين! وينتقل لنظرة حكومية محدودة، أثرت على أهمية وجوده وتدريبه واستثماره كأحد صور القوة الناعمة، فتكون النتيجة خططًا بيروقراطية مُحكمة تطور فى الحجر لا البشر، أو الألوان والإضاءة والمعدات والخيمة، وتترك شعب السيرك يتلظى بنار اللوائح والبيروقراطية، وتقليص الموارد وفقر الرواتب والتدريب والخبرات إلخ.

لم أجد إجابة محددة تساعد المستثمر -أو تساعدني- لبلورة قراره بالاستثمار فى السيرك المصرى من عدمه! فلا يوجد لدينا مفهوم لدراسة جدوى الإنسان أو موظفى مشروع معين أو موظفى جهة إدارية، وكلما حاولت إقناعه بجدية تطورات الاستثمار بالبنية التحتية، أجده مركزًا أكثر على الإنسان أو شعب السيرك، فمجاله الاستثمار فى الإنسان وليس العقارات، ولتوضيح فكرته قال أنا لا أبغى الاستحواذ على السيرك لأبيع أرضه وأجهزته، وأسرح عماله وفنانيه وأغنم عدة ملايين! فمنتجات السيرك تخاطب الخيال والبهجة والتحدى والابتكار وروح المغامرة، وكلها تحتاج لإنسان مُجدٍ لا فقط تجهيزات براقة، فالقيمة الحقيقية فى بعث روح جديدة يشيد عليها فكر ومفهوم متطور، يسمح بالمنافسة والتطور والتغيير، وتكاليف إنتاج هذه المنتجات لا ترتبط فقط بتطوير المرافق والخدمات والأجهزة والمعدات إلخ، ولكنها محصلة تطوير نظرة وعلاقة الإدارة بالشعب، وإلا كرسنا أجيالًا من الضاحك الباكي، أو البهلوان المنتحر، أو المروض اليائس، أو الموظف الجاهل! ولفهم ذلك أنصحك بدراسة تجربة تطوير سيرك دى سولى الكندي، عندما تبنى شعار (إننا نعيد اختراع السيرك) فاهتم بالابتكار والقيمة، لتغيير شريحة الجمهور، واستبعاد الحيوانات والتركيز على الثقافة الفكرية والعروض الفنية التجريدية والروحية، ليخرج عن المنافسة التقليدية وينحت سوقًا متفردًا به!

أوضح المستثمر فى مناقشته أن مراجعة فريقه لمعلومات السيرك المصرى على الإنترنت، استشفت عدة محاور فى علاقة وتعامل الإدارة مع مفاهيم التاريخ والتراث والفن والإبداع والتدريب والثقافة ودور وأثر القوة الناعمة فى تسليح الشعوب، والأخطر مفهومها لقيمة وأهمية الزمن فى عمليات التطوير البشرى وقيمته الذاتية كأحد المحاور الحقيقية للنجاح، والتعامل مع البشر كميراث محكوم بتاريخه لا بتشكيل مستقبله! أجمعت مراجعة المستثمر على الفرصة الذهبية لسوق به 120 مليون نسمة، أغلب طبقاته سهلة الإرضاء لمحدودية ثقافتها، واستخدامها السطحى لا تفاعلها مع التقنية، وسهولة التلاعب بوعيها الجمعي، وسطحية اهتماماتها، بما يجعلها جمهورًا خرافيًا لسيرك حقيقى إن عُمل بجدية وإنسانية ضمن منظومة تطوير حقيقية، تشمل شعب السيرك، وإدارته، وحاكميه، وتجهيزاته. ثم ابتسم قائلًا (ليس كل المستثمرين مثلي؟ فبخلاف ذلك؛ سيأتى على السيرك المصرى زمنًا إما يباع كتراخيص وأراضٍ أو سيشهد نهضة خارج شعبه، الذى سينتقل للنظارة، ويدفع ثمن إهمال بحث جدواه، ووقف تطويره وإعادة توظيفه)!

لم أجد مخرجًا من هذه المناقشة، التى عرت احتياجنا لدراسة جدوى شعوب كثيرة فى مؤسسات وإدارات وشركات مختلفة، يجمعها الإنسان المصرى الذى يحتاج لدراسة جدواه فى كل موقع يشغله، يشهد تطورًا لما حوله وتحت قدمه، وينتظر الرؤية فى عينيه لإعلان أن زمنه قادم!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]