خواطر مشتتة ومرتبطة فى آن واحد
لتشرتشل، رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق، وهو من أعظم ساسة القرن الماضى، جملٌ شهيرة وعميقة. أهمها فى رأيى ما قاله عندما توصل رئيسا الوزارة البريطانى والفرنسى لاتفاق مع هتلر وموسولينى فى ميونخ 1938 وهو اتفاق وافقا فيه على ضم هتلر أراضى تشيكوسلوفاكية تقيم فيها الأقلية الألمانية، وصوّرا الاتفاق على أنه جنّب العالم ويلات الحرب وضمن السلام «لعصرنا »على حد تعبير أحدهما٬ مقابل تنازلات… وطبعا لم يخطر على بال أحدهما أن يستشير الحليف التشيكوسلوفاكى، ولم يجدا غضاضة فى خيانته… فكل شيء يهون أمام ضرورات السلام. وعقّب تشرتشل، وكان أيامها برلمانيًّا مرموقًا، مخاطبًا رئيس الحكومة… لقد كنت مخيرًا بين العار والحرب… تفضلت باختيار العار وستحصل على الحرب (إضافة على العار)، وأكدت الأيام صدق توقعه.
كتب الفيلسوف الإسرائيلى أفيشاى مارجليت كتابًا هامًّا وقيّمًا وغير مقنع حاول فيه أن يصل إلى معايير تسمح بالتمييز الواضح بين الحل الوسط المُخزى والعقيم والكارثى، وبين الحل الوسط الحصيف الذكى المحقق للسلام. ورغم ذكاء الكاتب وتعمقه ومجهوده الكبير، بدا لى الكتاب عندما قرأته مخيبًا للآمال، على عكس باقى كتبه ورغم قيمته. وأظن أن المشكلة ليست فى الكاتب؛ بل فى صعوبة السؤال. من ناحية ما يبدو حصيفًا على المدى القصير قد يظهر كأنه كارثى على المدى المتوسط، ثم يتطور التشخيص مع مرور الوقت ليصبح القرار «له ما له وعليه ما عليه»… ويمكن تصور العكس؛ قرار لا تظهر حصافته إلا بعد مرور وقت طويل… إلخ.
تأمل اتفاقيات ميونخ 1938 ويُجمع المؤرخون، وأنا معهم، على وصفها بالكارثية. أسباب مهادنة هتلر كانت الرعب من الشيوعية وسياسة ترى أن ألمانيا النازية ضرورة لتحييد الخطر السوفييتى، وكسب الوقت لإعادة بناء الجيوش الغربية، ويمكن القول إن مطلب هتلر بضمّ المناطق التى يقطنها ألمان لم يكن أسوأ ما فى برنامجه وكان يتفق ومبادئ ولسن. وعلى بشاعة معاملته لليهود أيامها، كان من الصعب التنبؤ أو حتى التصور بإمكانية المحرقة… أى هناك أسباب وجيهة لهذا الاتفاق. ما زلت أراه كارثيًّا… أى قارئ لكتاب هتلر ومُتابع لخُطبه وآليات عمل نظامه وافتراضه المجنون لتاريخ البشرية بأنه صراع وجود بين الجنس السامى وباقى الأجناس… أى متابع كان يمكنه التوصل إلى الخلاصة التى وصل إليها تشرتشل… هذا النظام يعيش على الحرب ويريدها ويسعى إليها ويتصورها حرب إبادة ضد بعض الأجناس وضم الأراضى يسمح له بتحسين معيشة المواطنين الألمان، وأى تنازل له يعطى له شرعية ويقوّيه ويطيل أمد الحرب التالية.
لا أكتب هذا الكلام لاستعراض معلوماتى التاريخية، بل لطرح سؤال يتعلق بالسياسة الخارجية لعدة دول؛ منها مصر. أصبح الرأى العام الغربى من ناحية، وعلم العلاقات الدولية من ناحية أخرى، يقدسان الحلول الوسطى دون دراسة مضمون هذه الحلول. ونتفهم هذا لارتفاع التكلفة المالية والبشرية للحروب ولصعوبة إنهائها ولوجود السلاح النووى… ولصعوبة التنبؤ بالمستقبل. يميل العالم الغربى وعلم العلاقات الدولية إلى عدم تصديق من يقول «هذا النظام يعيش على الحرب وعلى زرع عدم الاستقرار، وأى حل وسط يقوّيه، ومهما حصل ومهما تنازلنا فإنه سيواصل العدوان، وبالعكس فإن التنازلات تفتح شهيته وتقوّى تصوراته عن قوته وعن ضعفنا»، ويرى الرأى العام الغربى وعلم العلاقات الدولية فيمن يقول هذا كمن يطالب بحرب لمنع احتمالات الحرب… يطالب بحربٍ شرسة تحقق نصرًا حاسمًا لمنع «احتمالات»… أى يراه كشخص ضعيف المنطق.
ومعنى هذا الكلام الليبرالى أن النصر العسكرى لم يعد ممكنًا، وإن كان ممكنًا فلا قيمة له وأن التعايش مع دول مهما كان سلوكها ممكن وضرورى. ونرى أن كل هذا يحتاج إلى مراجعة..
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية