خواطر مواطن مهموم (92)

خواطر مواطن مهموم (92)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:49 ص, الأحد, 13 يونيو 21

مبدأ الحكم الذاتى بين الحربين العالميتين

أواصل عرض كتاب المؤرخ البريطانى مارك مازوير المعنون «القارة السوداء»، الذى يستعرض تاريخ أوروبا فى القرن العشرين ليدحض تصوراتها عن نفسها، وهذا الدحض قائم على فكرة صائبة… لا يمكن كتابة تاريخ أوروبا دون التعرض لما حدث فى أوروبا الوسطى والشرقية… فما حدث هناك هو السبب المباشر للحربين العالميتين. التنافس الراسم لتاريخ القارة هو التنافس بين ألمانيا وروسيا… وليس التنافس بين ألمانيا وفرنسا مع تأييد بريطانى للثانية…

هذه المقاربة تؤثر على تقييم الأحداث. من منظور فرنسا والمملكة المتحدة مسؤولية الألمان فى شن وبداية الحرب الأولى واضحة٬ فهى التى لم تحترم حياد بلجيكا المضمون من قبل المملكة المتحدة وهى التى توغلت فى أراضى فرنسا وهى التى كادت تحتلها كاملا وألحقت بها خسائر وجروح وعقد نفسية ورؤى للعالم لم تقم منها فرنسا.

وظل الألمان متعجبين من هذه الفكرة٬ ففى رأيهم فإن روسيا هى المسؤولة عن الحرب لإصرارها على حماية صربيا من إجراءات الإمبراطورية النمساوية المجرية العقابية… وإصرار فرنسا على الاصطفاف مع روسيا…ودون رغبة منا فى حسم هذا الخلاف بين المؤرخين نقول أن لوجهة نظر الألمان وجاهة شأنها شأن الرواية الفرنسية…

نعود إلى تفاصيل كتاب مازوير لأن روايته تلقى ضوء على ما حدث فى منطقتنا. الثورة الفرنسية روجت لعدة مبادئ إحداها حق الشعوب فى أن تحكم نفسها بنفسها وألا يحكمها أجنبى أو قوة أجنبية. المبدأ جميل ووصل خلال القرن التاسع عشر إلى أوروبا الشرقية والشرق الأوسط المحكومين من قبل امبراطوريات. ثم تبناه الرئيس الأمريكى ولسن وكان أحد أركان برنامجه لما بعد الحرب.

ولكن المبدأ يثير مشكلات لا حل لها٬ فهو يفترض أن تحديد معنى مصطلح الشعب أمر سهل. وهو سهل فعلا فى أوروبا الغربية٬ ولكن فى أوروبا الشرقية وفى الشرق الأوسط الوضع مختلف٬ هل كل إثنية شعب؟ هل الشعب مكون من عدة إثنيات أم هل هناك إثنية تضم عدة شعوب؟ والمبدأ يفترض أن لكل شعب أرض يختص بها هى أرضه وأرض أجداده وأرض مقابر أجداده… ما هو الوضع إن عاش شعبان أو إثنيتان على نفس الأرض منذ مئات السنين… ما وضع المدن التى يسكنها أبناء من شعوب أو إثنيات أو ملل مختلفة…. الكلام ليس نظريا فميناء سالونيك كان يسكن فيه أتراك وإغريق وألبان وأبناء مقدونيا وغيرهم…

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى انهارت الإمبراطوريات التى كانت تحكم أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط وتفجرت مشكلة إعادة رسم الخريطة وتنظيم المنطقة سياسيا. أولا كان الحلفاء – الفريق المنتصر- يريدون الموازنة بين اعتبارين متناقضين… تشكيل دول قوية تستطيع التصدى لصحوة ألمانية محتملة٬ ومراعاة مبدأ حق الشعوب فى حكم نفسها. والمشكلة الكبرى كانت فى عدد الشعوب التى تعيش على نفس الأرض. من ناحية عدد الشعوب والإثنيات معناه أن تطبيق مبدأ الثورة الفرنسية يخلق عشرات الدول الصغيرة غير القابلة للحياة٬ ومن ناحية أخرى نظرا لوجود إثنيات تعيش على نفس الأرض يجب إنشاء دول تعيش تحت ظلها إثنيات مختلفة٬ وهنا تظهر مشكلة وهى أن أى دستور ديمقراطى سيؤدى إلى حكم الإثنية الأكثر عددا٬ ومشكلة أخرى هى أن كل إثنية تريد دولة لها لا تشاركها فيها أى إثنية أخري. الأغلبية لا تريد وجود أقلية فى الجمهورية وطبعا الأقلية مستبعدة عن الحكم وليست سعيدة.

حاول الحلفاء فرض وثائق تضمن حقوق الأقليات٬ ولكنها ظلت فى الغالب حبرا على ورق. ما حدث على أرض الواقع مختلف. نشير هنا إلى أحد الحلول التى حدثت… الأقليات دُفِعن إلى الهجرة… إلى أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة أو… فلسطين

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية