الأستاذ النقيب
تعرفت على الراحل الغالى العظيم مكرم محمد أحمد فى نهايات سنة 1999 بفضل الصديق الجليل على درغام، أى أننى عرفته فى الربع الأخير من عمره، رأيته شامخًا عملاقًا فذًّا ولم أحضر مرحلة «صناعة» هذا الشموخ، ومن ثم لا أستطيع الخوض كثيرًا فى عملية البناء الذاتى التى رفعت مكرمًا ليكون أهم صحفى فى مصر، إنْ قِيست الأهمية بدقة المعروض على الجمهور وجودته وعلاقته بالوقائع.
كنت أعرف من هو بالطبع، وما أستطيع قوله إنه حوَّل المصور من نشرة لا يقرؤها إلا القلائل، إلى منبر نخب المعرفة والحكم فى مصر، وإلى فنار التنوير فى عصرٍ زحفت فيه قواتٌ تُعاديه وتمجد الجهل. وما لا يعرفه الكثيرون أن الأمريكيين والإسرائيليين كانوا يتابعون فى الثمانينات بدقةٍ ما يُنشر فى الصحافة والإعلام المصرييْن، وسمعتُ من مصادر متعددة ومؤكَّدة أن تقييمهم أن الصحفى الوحيد الذى يفهم ما يجرى فى كواليس الدولتين وفى المجتمعين هو مكرم.. مكرم الذى لا يحبهم.
بعد سنة 1999 تشرفتُ بمجالسته مئات المرات فى سهرات، بعضها «على الضيق»، وبعضها فى صالونات جمعت العشرات من الصحفيين ورجال الأعمال وكوادر الدولة والجامعيين. كان مجرى السهرة غالبًا كالآتي… يستمع ساكتًا إلى ما يُقال إلى أن يواجهه أحدنا بسؤال حول الأحداث، أو إلى أن يتدخل قاطعًا الحديث لأن ما قيل استفزّه. وأحيانًا كان يتحاور- إن كان فى الحاضرين من يحترمه مكرم- وأحيانًا أخرى كان يحاضر، يقول ما فى جعبته ويرفض مناقشته. والحق يُقال قبل سنة 2018 كنت أؤيد- فى باطني- قراراته بقبول أو رفض المناقشة. ومن واجبى أن أقول إن صبره قلّ مع تقدُّم السن.
فى كل الأحوال كان الاستماع إلى مكرم تجربة نادرة، أشفق على من لم يخوضها، وأحاول هنا وصفها. كنتَ تجد نفسك فجأة أمام الدولة المصرية تتكلم، بلغة بليغة رصينة وبوضوح وعقلانية وقوة. عندما أقول «الدولة المصرية» لا أقصد النظام، ولا أقصد أنه كان يدافع عن سياسة بالضرورة، أقصد أننا كنا أمام مشهد نادر، رجل دولة هضم كل خبرات الدولة المصرية بعد يوليو 1952 وفهم آليات عملها ووعى بقدراتها- ما تستطيع فعله وما تعجز عنه، رجل دولة أدمج كل هذا وموهبته الخاصة النادرة، ويتكلم متقمصًا دور ضمير الدولة وعقلها وعقلها الباطن وحصاد خبراتها. لا يدافع بالضرورة على أداء هذه الحكومة أو تلك، بل ينتقدهما فى أحوال كثيرة، ولكن نقده هو نقد الضمير الذى يؤنب.
كيف نجح فى هذا؟ فكرت كثيرًا فى الموضوع ولم أصل إلى نتيجة قاطعة، أظن أن نقطة الانطلاق هى تصوراته عن دور الصحافة ومهمتها، وأتمنى ألا أخونه إن قلت إنه كان رافضًا لنقيضين، من ناحية صحافة مملوكة للقطاع الخاص تخضع لأجندة مالكها ومصالحه، أو تسعى إلى الربح، أيْ تفضل الإثارة والجدل، ومن ناحية أخرى صحافة تابعة للدولة تروِّج لشعاراتها وتقنع الجمهور بسياساتها؛ أيًّا كانت، وترسم الصورة كما تريدها الدولة، وتكون فى موقع الخادم الذى يطيع ولا يبدى رأيًا.
أظنه رأى فى الصحافة ناقلًا الأخبار وجامع المعلومات والسامح لصاحب الرأى الرصين بعرض بضاعته. رأى فيها حلقة الوصل بين الحكومة والنخبة، وبين الحكومة والشعب؛ وفى مقدمته طبقاته الوسطى، ورأى فى الصحفى مقدِّمًا للمشورة له مميزات لا تتوافر بسهولة فى كوادر الدولة. كوادر الدولة متخصصة فى مجال، الصحفى قادر على متابعة شاملة للموقف، متابعة يومية على مدار السنوات، كادر الدولة يسمع لناس محددين ويتفادى موضوعات معينة، هذا صحيح أيضًا بالنسبة للصحفى، ولكن صلاته أوسع، وهو قادر على فهم مفاتيح الشخصيات الهامة وعلى الكلام عنها. كنت أحب أن أسمع مكرمًا وهو يصف لنا قادتنا وكوادرنا… وصفًا دقيقًا مُنصفًا.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية