خواطر مواطن مهموم 83.. الوقائع حمالة أوجه

توفيق اكليمندوس

9:49 ص, الأحد, 28 مارس 21

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:49 ص, الأحد, 28 مارس 21

التاريخ والوقائع حمالة أوجه. التطور التاريخى حمال أوجه. عندما أقول هذا فإننى أقصد أشياء مختلفة، منها أن نفس الواقعة يمكن تفسيرها تفسيرات متناقضة. عندما أقول مثلًا إن شمس بدران تحمّل فى أحاديث منشورة مسئولية أوامر التعذيب أيام ناصر، يمكننى أن أشيد بشجاعة الرجل ومروءته وصراحته، ويمكننى أن أقول إن هذا التصريح يعنى أولًا وثانيًا أن شمسًا لم يخش المحاكمة.. لأنه علم أنها لن تجري.

لا أقصد أن كل التفسيرات تتساوى، فهناك تفسيرات سطحية تعكس انحيازات المؤرخ وتفضح جهله بالسياق والنفس البشرية وآليات وأدوات السياسة. أريد أيامًا أن أكتب كتابًا دفاعًا عن المشير عبد الحكيم عامر. كتاب حجته الرئيسة «السياق». ضرورات تأمين النظام حكمت خياراته مثلًا. أثناء حرب 67.. ما يمكن طلبه من قائد وجد نفسه فجأة دون سلاح جوى فى صحراء.. كيف يمكنه الاحتفاظ بالثبات النفسى فى مثل هذه الظروف.. سلوكه بعد الحرب.. طبيعى أنه حاول أن يدافع عن نفسه وعن رجاله. مرة أخى.. يستحق المشير نقدًا قاسيًا.. ولكنه نقد مُلمّ بالظروف لا متجاهل لها.

ما يهمنى اليوم هو التاريخ المفهومي. أقصد به كتابة التاريخ على طريقة طارق البشرى وشريف يونس مثلًا، تاريخ يرى أن هناك منطقًا يحكم الأحداث والتفاعلات والخطاب السياسى السائد قد لا يكون ظاهرًا وقت وقوع الحدث. ويكتشفه المؤرخ بعد نهاية المرحلة التاريخية مستعينًا بمفاهيمَ وروايات تنتمى إلى العلوم الاجتماعية والسياسية. قد لا يفهم القارئ مغزى استخدام كلمة «رواية» فى الجملة السابقة. أستعين بمثال للتوضيح… يرى عالِم اجتماعى عظيم أن هناك نوعًا من القيادة هو الزعامة الكاريزمية؛ أى زعامة قائد تنسب له قدرات ومهارات فائقة تسمح له بتحقيق معجزات، وشرعيته مستمدة من الإنجازات النابعة من قدراته. يقول عالمنا إن هذا القائد يحتاج إما لتغيير نوع شرعيته، أو لتجديدها بين الحين والآخر بصناعة معجزة جديدة، ويظل هذا البطل يقامر ويخاطر إلى أن تقع المصيبة والهزيمة وتدمير بلاده.. هذه «الرواية» تكررت فى دول عدة.. نابوليون.. هتلر.. ناصر.. إردوجان- والأخير نجح إلى الآن فى التوقف قبل خط اللاعودة. باختصار مسار ومصير ومخاطر القائد الكاريزمى نموذج معروف.

شريف يونس ملهم وفذّ وكئود، وأحسبه أهم مؤرخ فى جيله وجيلي. ولكن كتب طارق البشرى أوسع انتشارًا وأشد تأثيرًا، ولا سيما تلك التى كُتبت أثناء وبعد تحوله من اليسار إلى الإسلام السياسي؛ ليس فى مصر فقط، وشهادتى مثلًا أن الأكاديميين الفرنسيين من مواليد الخمسينيات قرءوا وتأثروا وأشادوا بكتابه «المسلمين والأقباط»، وبمقدمة الطبعة الثانية لكتاب «الحركة السياسية فى مصر 1945/ 1953».. وأن الكتابين لعبا دورًا فى شرعنة الرهان الغربى على الإخوان فى الربيع العربي.

كلام البشرى يستحق مناقشة جادة لا يتسع لها المجال هنا. سيقول البعض قُتل هذا الكلام بحثًا… وسأردُّ… قبل العقد الماضي. أقبل اعتراضًا يذهب إلى أنه من المبكر الحكم على الكتابين؛ لأن المرحلة لم تنته، ولكننى لا أقبل رفضًا للنقاش بحجة أنه تم.

ملخص كلامه أن التاريخين الحديث والمعاصر المصريين شهدا علاقة جدلية بين وافد وموروث؛ وافد تجذَّر بعد نجاحه فى قيادة النضال الوطنى من أجل الاستقلالين السياسى (مع الوفد) والعسكرى والاقتصادى (مع ناصر)، وموروث مثّله الإخوان المسلمون، وبدرجة أقل مصر الفتاة، مثل الثوابت والأصالة، وعكس تمسك المصريين بهويتهم الإسلامية، ورفضهم للتبعية الثقافية للغرب. ورأى البشري- أتمنى ألا أكون خائنًا له- أن الاستقلال لن يكون كاملًا دون استقلال ثقافى يبنى مشروعًا حضاريًّا مستمدًّا من الجذور.

لديَّ مئات من التحفظات على حيثيات وتفاصيل الكلام.. ولكن السؤال الذى يهمني: ما طبيعة العلاقة الجدلية التى يقصدها البشري.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية