قلنا الأسبوع الماضى إن سؤال الحرية هو فى الوقت نفسه سؤال الطاعة ، لأنه من المستحيل أن يكون الفرد حرًّا حرية كاملة دون أن يَحرم غيره من الحقوق، نعدل قليلًا ما ذهبنا إليه فى الأسبوع الماضى قائلين إن الاعتراف بحقوقٍ ما لفرد هو تقييد لحرية غيره، سواء كان على قدم المساواة مع هذا الغير أم لا. الحرية إذن مقيدة بحقوق الآخرين، وعندما نقول مقيدة نقول إن هناك حدودًا، والسؤالان اللذان يفرضان نفسهما هما من يقوم بتحديد هذه الحدود، ومن يراقب احترام الكل لها.
وعدد الردود الممكنة على السؤالين ليس كبيرًا. الرد التقليدى على السؤال الأول هو «الدين وولى الأمر». وردُّ الحداثة الأوروبية عليه هو «الشعب والعقد الاجتماعى». فلنحدد أكثر، هناك أديان لا تطرح سؤال كيفية تنظيم المجتمع وتحديد المبادئ الحاكمة له، وعندئذ يُترك الأمر لأولياء الأمور أو للشعب، وهناك أديان تكتفى بذكر مبادئ عامة وتحديد محظورات، وهنا أيضًا لأولياء الأمور أو الشعب دورٌ ما تتوقف أهميته على عدة عوامل، منها وجود أو عدم وجود رجال دين أو مؤسسة دينية، وإن وجدوا، على ماهية طبيعة علاقاتهم بالحاكم. وهناك أخيرًا أديان لها شريعة مفصلة تنظم كل جوانب الحياة، وهنا أيضًا يتوقف الكثير على مبادئ الدين وعلى طبيعة العلاقة بين أولياء الأمور إن وجدوا، ورجال الدين إن وجدوا.
الأمور أكثر تعقيدًا من هذا العرض المبسط.. أولًا لأن الأمر فى النهاية موكول إلى السلطة السياسية، قد تكون فى يد رجال الدين، ولكن هذا تاريخيًّا يعد استثناء، الأصل أن صاحب السلطة السياسية هو المتغلب (بالقوة أو بالانتخابات) أو وريثه أو الأقدم، صاحب السلطة السياسية قد يصور نفسه إلهًا أو حارس الدين أو الرئيس الإسمى للمؤسسة أو المنظومة الدينية، ولكنه عامة ليس رجل دين، هو رجل سياسة يشرف على الدين، وليس رجل دين يشرف على السياسة.
ثانيًا هناك واقع فى أغلب الأديان، وهو عجز رجال الدين والمتدينين عن الاتفاق على تفسير واحد للتعاليم الدينية. وهذا الواقع يقوى السلطة السياسية أحيانًا ويضعفها أحيانًا. يقويها لأنها تكون الحكَم بين التفسيرات ولأنها تتدخل لمنع وصول التنافس والتناحر بين التفسيرات إلى درجة الفتنة.
ويضعفها لأن المتبنّى لتفسير غير تفسير السلطة قد يرفض الطاعة لها وقد يتمرد عليها، ولأن التناحر بين الفِرق قد يصل إلى حد الفتنة والحرب الأهلية. وثالثًا العلاقة بين الدين والطاعة معقدة جدًّا، رأى مفكرون أن الدين مدرسة للطاعة العمياء وتقييد للحريات ما بعده تقييد، ومنع للتفكير ما بعده منع، وتعميم لعقلية العبيد، تستوجب طاعة مطلقة لرجال دين يدّعون أنهم وكلاء السماء، ورأى آخرون أن الدين أكبر محرِّر وضامن للحرية، فهو يذكر دائمًا الشعب وولى الأمر أن هناك سلطة أعلى من الأخير، وكبيرًا أكبر منه، وأن هناك مبادئ أعلى وأرفع من قوانينه، هذه المقاربة تقول إن العبودية لله تقتضى التمسك بالحرية فى وجه البشر، وتقوّيها، وتقول إن الأديان مجمعة على وجود حياة أخرى بعد الموت وحساب لما تم فى الحياة الدنيا، وفكرة الحساب تقتضى حتمًا الحرية وكون الإنسان مخيرًا.
لا أريد أن أتعمق أكثر فى هذا البحث، أكتفى بالقول إن اختلاف الفقهاء رحمة وأن أشدد على ضرورة استفتاء القلب، وأن أنبه إلى كون استفتاء القلب مختلفًا عن استفتاء العقل فى بعض النقاط. وأضيف أن كلمة عقل ومشتقاتها متواجدة بكثافة فى القرآن الكريم. استفتاء القلب ضمان للتعددية وإقرار بأن ردودًا كثيرة جائزة، وهذا لا يعنى أن كل رد جائز، أما إعمال العقل فيثير قضايا لا أعلم إن كنت أريد الخوض فيها.