الأنظمة السياسية الغربية تعرف نفسها بأنها ديمقراطيات تمثيلية، بمعنى أن الشعب يختار ممثليه، لها نظام اقتصادى يجمع بين الرأسمالية ودولة الرفاه. وأغلب الغربيين يرون فى هذه الصيغة أحسن نظام توصلت إليه البشرية، ونعلم أن فوكوياما قال إن معركة الأفكار السياسية حسمت لصالح هذا النموذج، وأن تاريخ الفكر انتهى، وكتابه بالمناسبة ممتاز رغم رفضى لفرضيته الأساسية. هو ممتاز لأن فكرته واضحة ولأنه مدخل سلس وعميق لفكر كل من آدم سميث مؤسس علم الاقتصاد، وجورج هيجل وهو مع كانط أهم مفكر غربى آخر 250 سنة.
من المشكلات الهامة التى لم يتعرض لها هذا الكتاب سؤالان… أولًا هل الأنظمة الديمقراطية قابلة للحياة وللاستمرار لمدد طويلة أم مصيرها الأفول والتحول إلى شيء آخر. وثانًيا هل الأنظمة الغربية ديمقراطية فعلًًا.
نعلم أن فطاحل الفكر الإغريقى أفلاطون وأرسطو ذهبا إلى أن الديمقراطية لا تعيش طويلًا، لأسباب، منها أن صراع الأهواء والمصالح الخاصة يضر بالخير العام ولأن المعرفة والأخلاق اللازمين لحكم رشيد غير متوافرين لدى الجمهور. وبمعنى أدق الديمقراطية تفترض منظومة قيمية من الأخلاق، وهذه المنظومة تتآكل تدريجيا أو بسرعة تحت تأثير النظام الديمقراطى.
سيقول البعض إن الديمقراطية الإغريقية القديمة لم تعرف فكرة التمثيل النيابى التى منحت قدرًا من الاستقرار للديمقراطية، والمشكلة طبعًا أن فكرة التمثيل تثير مشكلات جسيمة، أبرز توماس هوبز بعضها، فى محاولة منه لشرح لماذا الملكية المطلقة أفضل من الديمقراطية، وظهر بعضها مع التطبيق. ومن ناحية أخرى لم يثبت أن تأثير فكرة التمثيل على المنظومة القيمية الأخلاقية تأثير إيجابي… من الصعب التعميم، ولكن العكس أقرب إلى الصحة.
وأيا كان الأمر فإننى أزعم أن الأنظمة الديمقراطية الغربية ليست أنظمة ديمقراطية كما تدعي، أو لم تعد كذلك، هى أنظمة تنتمى موضوعيا إلى ما سماه الأقدمون الأنظمة المختلطة… أى الأنظمة التى تجمع بين خصائص حكم الفرد (الملكية) وحكم نخبة صغيرة (أرستقراطية أو أوليجاركية) وحكم الشعب (ديمقراطية).
طبعا هذه الأنظمة تريد أن تكون ديمقراطية، ونسمع بين الحين والآخر عن أفكار تسعى إلى تعميق الممارسة الديمقراطية، بالسماح للشعب بالتعبير عن رأيه فى عدد من الملفات، دون انتظار موعد الانتخابات. ولا أقلل من هذه المحاولات، ولكن الواقع يقول إن المكون الأوليجاركى يتمدد ويتغلب على العنصرين الآخرين… إرادة الحاكم، وإرادة الشعب.
هذا التطور يقدم نفسه على أنه حكم المؤسسات العقلانية القانونية، أى تلك المؤسسات التى تلتزم بحكم القوانين وتعمل وفقًا لإجراءات منصوص عليها، وقد يقدم نفسه على أنه إدارة علمية للتنوع والاقتصاد والسياسة الخارجية والأمن القومى.. إلخ، وفى شق منه هذا الكلام صحيح، وفى شق منه هو تبرير سخيف.
ليس من الضرورى حسم الخلاف بين من ينسب هذا التطور إلى قصد سىء للنخب وهم الشعبويون، ومن يراه نتيجة طبيعة لمنطق النظام الرأسمالى والمقاربة العلمية للإدارة.
ما يهمنى فى هذا الصدد أن نقر بأن الإدارة «العلمية» للاقتصاد تهمل احتياجات ومشكلات الخاسرين من العولمة والمتضررين من التقدم التكنولوجي، وهم يمثلون فى كل دولة ما بين ثلث وثلثى السكان. تهملها وإن ادعت العكس، وإن تكرمت بتخصيص بعض الإعانات وترك لهم الفتات، وأى قائد يحاول تغيير هذا الواقع يعاقب عقابًا صارمًا من قوى السوق ومن الهيئات الدولية، وتوصف سياسته بأنها تخاطب الغوغاء وبأنها تصدر عن جاهل.. إلخ.
وهنا أذكر النقطة الثانية، النخب الليبرالية تدعي أن حكمها هو حكم العلم والحكماء، وهذا الحكم ليس ديمقراطيا، وفقًا لتصنيف فطاحل الفكر. قد يكون حكمًا من أجل الشعب ولكنه ليس حكم الشعب. ونضيف أن علمية وحكمة قراراتهم محل شكوك كبيرة.