فى نشأة الديمقراطية
تاريخيا التجربة الديمقراطية نشأت كواقع اجتماعى وسياسى قبل أن تتشكل كفكرة ومفهوم.
لكبار المؤرخين كتب ودراسات بديعة فى هذا الشأن، وأعتمد هنا أساسا على كتب العلامة الفرنسى جان بيير فرنان لا سيما دراسته عن أصول الفكر الإغريقى.
يقول ما يلى.. منطقة شرق المتوسط عرفت أنظمة سياسية وهياكل اجتماعية متشابهة. سلطة مركزية هى القصر، على رأسه حاكم مطلق له صفة إله أو مندوب الآلهة ووسيط البشر أمامها، كهنوت يضفى عليه الشرعية ويشرف على الطقوس والعبادات، موظفين يشرفون على تنظيم الاقتصاد وجباية الضرائب وسن القوانين، البناء الاجتماعى مقسم بين جنود لديهم امتيازات وفلاحين… مع وجود طبقة تجار لا سيما فى الموانى.
الأديان الموجودة تروى نفس الرواية مع اختلافات فى التفاصيل. نشب صراع بين الآلهة وعم الخراب والفوضى والفقر، بعد قتال مرير انتصر إله الخير وامتدت سيادته على أنحاء القطر وعاد السلام والرخاء والأمن. وهذه الرواية لها غالبا خلفية تاريخية. لم تستقر سلطة الحاكم أو أسرته إلا بعد قتال أو فتنة أو صراع بين أمراء.
ما حدث أن أقاليم إغريقية تعرضت لغزو قضى على المملكة وأهلك الحاكم أو الأسرة الحاكمة وانهار معها الدين السائد والمنظومة القانونية.ولسبب أو آخر لم يعجب القطر الغزاة… الموارد الطبيعية قليلة والموقع الجغرافى غير ضرورى لأمنهم. فانسحبوا تاركين الدمار والخراب..
وجد السكان أنفسهم دون سلطة مركزية ودون دين – الدين السائد قبل الغزو فشل فى حمايتهم- ودون أسرة حاكمة… ومع جنود فقدوا هيبتهم.. ووجب عليهم تنظيم أحوال المدينة بالتشاور وبدون معونة أحكام وشرائع دين. وبدأوا يجتمعون فى الميدان الرئيس للمدينة. ويتجادلون بالتى هى أحسن، وظهرت وازدهرت فنون البلاغة والخطابة، والصراع الطبقى وثقافة الحلول الوسطى.
أنتقل من عرض مبسط لكتاب فرنان لعرض أكثر تبسطا لمقولات أرسطو. أهم سمات هذا النظام عدم الاستقرار وميل إلى الفوضى. القانون الذى سنه إنسان يستطيع أن يراجعه إنسان. القانون الذى ينتج عن ميزان قوة يتغير مع تغير موازين القوة. صراع الطبقات محتدم فى غياب سلطة مطلقة. إن آجلا أم عاجلا الفوضى تضعف النظام إلا لو…. تم دعم النظام بعوامل استقرار.
يمكن مثلا اعتبار بعض القوانين إلهية.. ليست من صنع البشر.. أذكر هنا رأيا لبعض المفكرين يقول أن سبب ظهور الأديان (غير السماوية) هو الحاجة إلى تحصين بعض القوانين ضد أهواء وتقلبات البشر. يمكن أيضا منح سلطات خاصة لأصحاب الحكمة والخبرة الذين يجيدون فن الخطابة وسن القوانين… يمكن تقوية سلطات الحاكم ومده بأدوات. الخ. باختصار يمكن تحويل النظام السياسى إلى أرستقراطية أو ملكية أو إلى نظام مختلط يجمع بين سمات الأنظمة المختلفة.
من المعروف أن هيجل وغيره أشادوا بفكر كل من أفلاطون وأرسطو وقال أن عبقريتهما تفسر جزئيا بكونهما يكتبان فى مرحلة هى نهاية الحقبة الأولى للتجربة الديمقراطية، وأنهما شاهدا كل مسارها التاريخى وميلها إلى التدمير الذاتى لفشلها فى ضبط عدم الاستقرار والفوضى. وفى المقابل هناك عمالقة – كاستورياديس مثلا- يعتبرون أنهما خانا التجربة التاريخية التى ولدتهما وحتتهما على التفكير فى تأصيل السياسة ونظم الحكم… لأول مرة فى التاريخ شعب حاول أن يحكم نفسه بنفسه وعرف أنه مسؤول عن أحواله وأن من حقه التشريع والإدارة. طبعا لا يقال هذا للتحقير من شأنهما لأنهما يتربعان على قمة الفكر البشرى.
لا أقولها رغبة فى سجال عقيم.. ولكن تأمل حال الديمقراطيات الحالية يؤكد التشخيص الذاهب إلى أنها إما ندمر نفسها أو تحصن نفسها نسبيا بتشكيل نخب تكون بمثابة أرستقراطية جديدة.. ورغم ذلك تبقى الديمقراطية أفضل النظم.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية