أواصل عرضى المختصر لبعض جوانب تاريخ تنظيم الضباط الأحرار، لمحاولة الإجابة على سؤال علاقاتهم بجماعة الإخوان المسلمين من ناحية، وبالمخابرات المركزية الأمريكية من ناحية أخرى.
قرر التنظيم القيام ببعض الأنشطة مثل توزيع المنشورات والمشاركة فى انتخابات، وهى أنشطة تعرض سريته للخطر، ولكن «النشاط» كان ضروريا لتهدئة حماس الضباط الشباب، الذى كان يتساءل عن جدوى الاشتراك فى صفوف تنظيم سرى لا يعمل شيئا بحجة أنه يحضَّر لثورة كبيرة.. وبصفة عامة عبد الناصر -رغم سقطة واحدة- كان مقتنعا بعدم جدوى الاغتيالات، وبصفة عامة أيضًا فإن العمل المشترك يقوى الأواصر والصلات ويسمح بتقييم أداء الأعضاء.
المهم، اشترك التنظيم فى انتخابات مجلس إدارة نادى ضباط الجيش وحقق فيها نصرا ساحقا على قائمة الملك… ولا يعرف الكثيرون أن أغلب قادة الجيش أيدوا قائمة التنظيم. اليوم نسينا مدى الغضب الشعبى والنخبوى والمحلى والدولى من الملك فاروق.. ويوجد بيننا من يمجده.
لفتت النتيجة المذهلة نظر السفارات الأجنبية، ولا سيما الأمريكية، التى كانت تتابع تدهور الوضع بقلق بالغ، وكانت تلح على الملك فاروق ليقوم بإصلاحات عامة وبإصلاح زراعى بصفة خاصة ليصنع لنفسه قاعدة اجتماعية مؤيدة. وحاولت أجهزة الدولة الأمريكية التعرف على أعضاء هذا التنظيم والتأكد من عدم انتمائهم للشيوعية. وتحدث الكثيرون عن هذه الاتصالات ودورهم فيها، ولكن الملف كان بين يدى ناصر والمرحوم جمال سالم… وهو بالمناسبة من أذكى الضباط الأحرار وأكثرهم وطنية… غاب هذا البعد الجميل له بسبب سرعة وعنف غضبه.
قد يستغرب الجمهور من وجود هذه الاتصالات. كان هناك 80 ألف عسكرى بريطانى على ضفاف القناة، التنظيم كان مرعوبًا من تكرار سيناريو ثورة عرابى… تدخل بريطانى لإنقاذ الحاكم. كان عليه البحث عن تطمينات وعن التأكد من موقف الدول الغربية الكبرى. وكان لا يرغب فى التواصل مع البريطانيين وكان يدرك وجود تنافس مكتوم بين واشنطن ولندن.
بعد حريق القاهرة – لا يد للتنظيم فيه- اتضح أن النظام وصل إلى طريق مسدود ولن يستطيع ضبط الأمور ولن يرغب فى القيام بإصلاحات. وقرر التنظيم عدم استغلال الفراغ ووجود قوات موالية له فى العاصمة للاستيلاء على السلطة فى يناير أو فبراير لتزايد احتمالات تدخل الجيش البريطاني، وفى الوقت نفسه قرر الإطاحة بالملك قبل نهاية السنة.
وبدأ يعد العدة ويتصل بأطراف، منها الإخوان والأمريكيون، وتوصل بسرعة إلى اتفاق مع الإخوان.. وهو اتفاق محير بكل المقاييس. فمن فاوض ناصرًا من الإخوان قَبِل أغلب شروطه ولم ينجح فى فرض أى شرط عليه. يمكن تفسير الأمر بالرغبة فى الانتقام من الملك فاروق أو بالاقتناع بضرورة التخلص منه، وبمنطق الجبهة أو بقناعة أن موازين القوة فى صالح الإخوان وأنهم سيقدرون على فرض رغباتهم على ناصر عندما يحين وقت الجد.
عندما جاء ميعاد القيام بالثورة طلب ناصر وعامر من الإخوان هل الاتفاق ما زال ساريا، وسافر محاوروه إلى الإسكندرية لسؤال المرشد. وعادوا إلى القاهرة برد مفاده ضرورة تعديل الاتفاق لأن الجماعة لا تستطيع المخاطرة بحياة وسلامة مئات الآلاف من أبنائها فى مخاطرة لن تخرج منها بشيء – سواء نجحت أو فشلت. وقَبِل ناصر على مضض لأن الموقف كان حرجًا…لأن الأمن تعرف على أغلب أعضاء التنظيم.
وفقًا لتلميحات الإخوان… المرشد الهضيبى لم يكن يعلم وجود اتفاق مع ضباط جيش وفوجئ به. وبات جليا أمامه أن بنود الاتفاق لا تحقق المشروع الإخواني، وطلب تعديلات وضمانات.. ولا يوجد سبب فى عدم تصديق هذا سوى ما اشتهر به الإخوان من انضباط شديد. ولكن ناصر رأى فى هذا التغيير المفاجئ استغلالًا سيئا للظرف.. ولو كنت مكانه لذهبت مذهبه.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية