تحدثت فيما سبق عن القضية التى فرضت نفسها بعد تشكيل الأمة، وهى كيف يمكن تحجيم السلطة المطلقة التى وحدت الشعب وبثت أو فرضت ثقافة مشتركة وذكرنا الآليات التى ابتكرت… فكرة حكم الشعب لنفسه والديمقراطية التمثيلية، وقلنا إنها قد تؤدى إلى حكم أغلبية أشد بأسا وطغيانا من حكم الفرد، وأن هناك فئات لن تُمَثّل، ونضيف أنه لا يوجد نظام انتخابي مثالي… إن أردت تمثيلًا دقيقًا لاتجاهات الشعب ستصل إلى وضع يكون فيه تشكيل الأغلبية شبه مستحيل ويتمتع فيه بعض الأحزاب الصغيرة بنفوذ كاسح لا يعكس قوتها الحقيقية، لأن الأحزاب الكبيرة فى حاجة ماسة إلى تأييد الصغيرة إن أرادت ضمان تأييد أغلبية من النواب لحكومتهم. لو أن هناك 400 مقعد فى المجلس، ومن ثم تحتاج إلى تأييد 201 عضو لتتمتع بأغلبية، ولو أن حزبك لم يحصل إلا على 195 مقعداً، ستجد نفسك تتسول تأييد حزب لم يحصل إلا على ست أو سبع مقاعد، وهذا الحزب سيبتزك.
البديل أن يفضل المشرع القدرة على تشكيل أغلبية على حساب التمثيل الحقيقى للاتجاهات، وقد يضع قانونWا ينص على أن الحاصل على المركز الأول فى الدائرة يفوز بالمقعد، سواء حصل على %90 أو %20 من الأصوات… هذا ممكن… سنجد وضعًا قد يحصل فيه الحزب الفائز على %30 من الأصوات، على ثلثى المقاعد. وعيب هذه الصيغة أن هناك قوى قد تمثل خمس أو ربع الناخبين ولا تحصل على مقعد واحد… وإن تكرر الأمر كثيرًا يفقد النظام شرعيته فى عيون فصائل كثيرة قد يلجأ بعضها إلى العنف.
وأشرت أيضًا إلى ابتداع خطاب يحد من السلطة المطلقة للسياسي، خطاب يقول إن السوق هى المجتمع، وأن المتحدثين باسمها يتحدثون باسم المجتمع، وأن السوق تخضع لآليات وقوانين (اليد الخفية) تزعم أنها «طبيعية» يمكن للعلم اكتشافها، ولا يملك أحد تجاهلها. السلطة السياسية قد تستطيع التدخل لمعالجة أزمة ولكنها لا تستطيع إهمال منطقها الحاكم، وقلنا إننا انتقلنا فجأة من وضع تراقب فيه السلطة السياسية أداء السوق إلى وضع معكوس تفرض فيه السوق رقابة صارمة على أداء الحكومة، ولكنه وضع لا تستطيع فيه السوق الزعم بأنها «المجتمع» لأن المتحدثين باسمها يمثلون نخبة دولية تستفيد من العولمة ولا يمثلون الشعب ولا المجتمع.
وظهر فجأة طرف ثالث يدعي أنه يمثل المجتمع… المنظمات غير الحكومية التى تدافع عن حقوق الإنسان، وتاريخيا هى ابتكار لجماعات اليسار المتطرف الذى فهم أن حلم الثورة العالمية المؤدية لمجتمع اشتراكى خال من الطبقات ومن الملكية الخاصة مستحيل التحقيق. فطور مشروعه ليصبح فضحًا لكل أوجه الظلم وكشفًا لكل علاقة سلطة تنتج وضعًا لا يتساوى فيه الفاعلون ونقدًا للثقافات السائدة باعتبارها قامعة لثقافات هامشية ومؤسسة لمنظومة قيم تعلى من شأن البعض وتحط من شأن الآخرين.
لا نقول أن هذه المنظمات لا تلعب أبدًا دورًا إيجابيًا، فهى قد تثير قضايا مهمة مسكوتاً عنها، وقد تنبه الرأى العام أو السلطات إلى وجود ممارسات ظالمة أو مخالفات تجب معالجتها. وقد تكون ملاذ من لا يجد ملاذًا، ما نقوله إنها لا تمثل المجتمع بل سلطة تراقبه أسسها أفراد لهم تصورات عن الإنسان والمجتمع والسلطة والعالمية والخصوصية والقانون الطبيعى خاصة بها، وهذا طبعاً من حقهم.
ولكن خطابهم وتوصياتهم وأسلوب عملهم والشبكات التى يعملون من خلالها يثيرون مشكلات جسيمة قد نعود إليها، نكتفى هنا بما يلى… ليسوا «مجتمعا» مدنيا أو أهليا بل جماعة ضغط، لسنا من أنصار التحجج الدائم بالخصوصية ولكنهم يفرطون فى التحجج بقيم يزعمون أنها عالمية وطبيعية وهى ليست كذلك.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية