أود هنا أن أشير إلى متغيرات عالمية أثرت فى مفهوم ومضمون وحدود وحرية حركة القيادة السياسية.
فى أغلب المجتمعات التقليدية كان ينظر إلى الحاكم على أنه ذو طبيعة مختلفة عن طبيعة باقى البشر، فهو إله، أو ابن إله، أو مختار من الآلهة٬ والطاعة له واجبه ولا مجال لطرح سؤال شرعيته إلا نادرًا. فالمفترض فيه امتلاك قدرات غير بشرية. والكثير من الديانات والأساطير القديمة تروى القصة نفسها… الأرض عرفت مرحلة تصارعت فيه الآلهة وعمت فيها الفوضى، انتهت بانتصار إله واحد أعاد النظام والسلام والخير. ويرى مؤرخون عظام أن هذه الديانات تروى على طريقتها واقعا سياسيا – صراع رجال أقوياء على الزعامة تسبب فى خراب ودمار- انتهى بانتصار أحدهم وتنصيبه ملكًا وعودة السلام الداخلى.
مع ظهور الديانات السماوية أعقبها تمدد الديمقراطية تغير الوضع، اختفت أولاً روايات الملك الإله أو ابن الإله وتدريجيا تراجعت مذاهب الحق الألهى ووصلنا إلى وضع يكون الحاكم بشرًا مثل غيره لا يتمتع بخصال تميزه عن غيره. ومع كونه رجلا عاديا ليس حاصلا على بركة السموات ولا على لعناتها، بات سؤال أدائه وقضية شرعيته موضوعين محوريين. وبرزت مسألة كيفية اختياره أو تنصيبه.. وطلب منه الكثير… أن يحقق معجزات ويتفوق على المصاعب ويواجه التحديات دون أن يدعى أنه مختلف عن بقية أعضاء الأمة وأن قدراته خارقة إلخ. أصبحت مسألة القيادة قضية تطرح كيفية التعامل مع هذه الاعتبارات المتناقضة… وفرض سؤال الكاريزما نفسه. وسادت معضلة… القائد إنسان عادى لأنه ليس إلها… ولكنه وفى الوقت نفسه ليس عاديا لأنه الممثل السامى المجسد للشعب والأمة.
من ناحية أخرى شاهدت الأوضاع تغيرًا فى موازين القوى وفى بنية الدول وفى العلاقات بين السياسة والإقتصاد والمجتمع والشعب والأفراد. لاحظوا من فضلكم أن استعمالى لهذه الألفاظ مقصود وأعى جيدا دلالة كل منها. الشعب غير المجتمع، والمفهومان تطورا مع الوقت.
يمكن القول مع عدد من الفلاسفة والمؤرخين إنه مع نمو البرجوازية فى أوروبا وتطور العلوم ظهرت مجموعة أفكار يمكن تلخيصها كالآتى… السوق ظاهرة «طبيعية» لها نواميسها وعلى الدولة احترامها وعدم عرقلتها. وصب التطور الفكرى والصراع مع السلطات السياسية والدينية وصعود البرجوازية والمناداة بالحرية فى الاتجاه نفسه … يجب رسم حدود للسلطات أيا كانت، وعلى الدولة تطوير مناهجها لتأهيل الرعايا ليصبحوا مواطنين منتجين وأحرار، كل هذا معروف، ولكن القليلين هم الذين رصدوا ميل الكثيرين من المفكرين إلى الخلط بين مفهومى المجتمع والسوق كأنهما صنوان أو مرادفان.
بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى فى ثلاثينات القرن الماضى والحرب العالمية الثانية ساد فى العالم الغربى وضع تم الجمع فيه بين نظام رأسمالى ودولة رفاه، وكانت الدولة تراقب السوق والنشاط الاقتصادى وتتدخل لضبطها ولرسم استراتيجية التصنيع ولإعادة التوزيع ولحماية المواطنين الفقراء… ثم انقلب الوضع مع وصول ريجان وتاتشر إلى الحكم، وتسارعت وتيرة التغيير مع انهيار الشيوعية وإطلاق العولمة الاقتصادية. انقلب الوضع وبات السوق هى التى تراقب الدولة ونكافئها وتعاقبها وتملى سياساتها وأولوياته وإلا… وظهرت مفاهيم جديدة مثل الحوكمة… وهى فى شق منها معايير تحدد سلوك الدولة وفقًا لمصالح واحتياجات السوق. هذا القلب لموازين القوة شديد الأهمية بالنسبة لموضوعنا لتأثيره على قدرة القيادة السياسية على اتباع سياسة تختارها هى وفقا لاحتياجات الشعب.
مع العولمة فقدت «السوق» القدرة على ادعاء أنها المجتمع٬ وأنها «الطبيعى» وأن قوانينها سنة حكيمة. فالسوق أصبحت عالمية لا تمثل شعبًا بعينه٬ وفى السوق الصوت الغالب هو عامة صوت الأكثر قوة، لا صوت الأعداد الغفيرة أو الشركات صغيرة الحجم. ومع العولمة لم يعدد ممكنا للسوق الادعاء بأنها تعمل لمصلحة الجميع.
يتبع