خواطر مواطن مهموم 288

خواطر مواطن مهموم 288
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:14 ص, الأحد, 13 أبريل 25

«حاضر عند البدايات»

“حاضر عند البدايات” ترجمة بشيء من التصرف لعنوان مذكرات دين أتشيسون الذى لعب دورًا مهمًّا فى رسم السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.

أتبحر وقد أغرق، هذه الأيام، فى دراسة هذه السياسة، لسببين…. كتابة دراسة عن مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا، ولسببٍ أكثر عمومية، محاولة فهم كيف تتصرف نُخب سياسة خارجية فى وضعٍ تتم فيه إعادة تشكيل شِبه كاملة للعالم. أقرأ الأرشيف الأمريكى ومذكرات الفاعلين وكتب المؤرخين. ما هو ناقص فى بحثى هذا هو الاطلاع على صحافة هذه الأيام… باستثناء دورية فورين أفيرز. يشير عدد من المؤرخين إلى بعض المقالات المنشورة فى الصحف الأمريكية الكبرى، لكن هذا لا يكفى.

ما هو مذهل حقًّا هو كفاءة كوادر الولايات المتحدة فى هذه الأيام. لكل منهم – مارشال، ويلز، هاريمان، جونز، أتشيسون، كلايتون، الرئيس ترومان – فهمه وخلفيته المهنية والدينية والثقافية، منهم أبناء علية القوم، وأصحاب الأصول الفقيرة، من بينهم العسكرى والدبلوماسى والاقتصادى والتكنوقراط والسياسى، وما هو مذهل أيضًا قدرة نواب الكونجرس على التوفيق بين مصالح ناخبيهم الضيقة والصالح العام الأمريكى، الرئيس كان ديمقراطيًّا، والأغلبية البرلمانية كانت جمهورية، ورغم هذا عمل الكل معًا. هناك ملفات يجوز بل يجب فيها الاختلاف، وملفات أخرى يجب فيها التعاون. وكان لأغلبهم القدرة على التعلم من الأخطاء من ناحية، وعلى المناورة من ناحية أخرى.

لا أقول إنهم كانوا معصومين من الخطأ، ولا إن اختياراتهم كلها سليمة، لكنهم فهموا ملامح النظام الدولى الجديد، وطبيعة العدو، وملامح إستراتيجيته، وفهموا أن الحُلم الذى راود الرئيس فرانكلين روزفلت… الذى توفاه الله قبل نهاية الحرب العالمية بأشهر… والمشروع الذى عمل على تنفيذه، مستحيلان، الرئيس روزفلت تصوَّر إمكانية نظام دولى جديد يتعاون فى إدارته الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، لمصلحتهما، وربما لمصلحة البشرية، لكن خلَفَه الرئيس ترومان وفريقه فهما أنه لا يمكن التوفيق بين مصالح الدولتين الكبيرتين، أو بين مشروعاتهما وتصوراتهما، وأنه يجب رسم الخطط على هذا الأساس.

ظهر الخلاف مبكرًا فى المسألة الألمانية، الاتحاد السوفييتى، صاحب الدور الحاسم فى الانتصار وأكبر التضحيات – الحرب قتلت %10 من أبنائه، ودمّرت %20 من بنيته الصناعية، كان يريد “استخراج” تعويضات ضخمة وقاصمة من ألمانيا، دون أى اعتبار لتبِعات هذا الخيار… تجويع الشعب الألمانى والموت جوعًا لعدد كبير من أبنائه والقضاء على أى قدرة له على بناء اقتصاد يحث على السلام، الموقف الفرنسى كان أقل تطرفًا بكثير لكنه يصب فى الاتجاه نفسه، الأمريكيون والبريطانيون فهموا أن هذا تكرار لأخطاء معاهدة فرساى، وأن السماح ببناء اقتصاد ألمانى، والتروى فى مسألة التعويضات، أمران ضروريان، ولمن لا يؤمن بنبل الدول أقول إن هناك “أنانية مستنيرة” تفهم أن السخاء يكون أحيانًا استثمارًا ذكيًّا فى المدى الطويل، وإضافة إلى هذا… تفعيل الخيارات السوفييتية والفرنسية يؤدى إلى تجويع عام، ومن ثم إلى إغاثة ومساعدات ضخمة ستتحمل تكلفتها الولايات المتحدة.

من ناحية أخرى، كانت الولايات المتحدة تسعى، منذ عقود، إلى تفكيك الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، وهنا أيضًا صبّت الاعتبارات الأخلاقية فى اتجاه حسابات المصالح، الولايات المتحدة تريد فتح أسواق ووصولًا سلسًا إلى مواقع المواد الخام والثروات الطبيعية، وفى الوقت نفسه كانت تَعدُّ نفسها “مستعمَرة” تحررت وتميل -أو يميل تيار مهم فيها – إلى التعاطف مع المستعمرات.

لكن عاملًا مهمًّا عقّد المسائل، بات الاتحاد السوفييتى مرشحًا لأن يكون المستفيد الأكبر من تفكيك الإمبراطوريات الاستعمارية، وهذا أوجَبَ التروى وفرَضَ معضلة… كيف تحرر المستعمرات مع إبقائها فى الفلك الغربي؟ وكان واضحًا أنه لا توجد “روشتة” تصلح لكل الحالات، وأن حماية الإمبراطوريات فى بعض المناطق أو المراحل قد تكون الخيار الأفضل.

وفى أول 1947 فجّرت بريطانيا مفاجأة من العيار الثقيل… أبلغت واشنطن بأنها ستنسحب من اليونان وتركيا؛ لعجزِها عن تحمُّل أعباء وجودها.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:14 ص, الأحد, 13 أبريل 25