خواطر مواطن مهموم 287

الإقرار بعدم وجود قوة دولية قادرة على فرض احترام أحكام القانون لا يعنى أن القانون حِبر على ورق

خواطر مواطن مهموم 287
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:27 ص, الأحد, 6 أبريل 25

تأملات فى السياسة الخارجية للرئيس ترامب 5

شخصيًّا أعتقد أن السياسات التى يوصى بها أبناء المدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية… ليست واقعية.

المدرسة الواقعية – فى اختصار مُخل – تنطلق من مقولة يتفق عليها الكل، عدم وجود حكومة فوق حكومات العالم، ولا “قوة شرطة” عالمية قادرة على فرض التزام الكل بأحكام القانون الدولي، لتقول إن كل دولة مسئولة عن أمنها وعن الدفاع عن نفسها، وهذا أيضًا محل إجماع، وأن القوة فوق القانون، وأن الشك المنهجى سيد الموقف، وأن المصالح المادية وحسابات المكسب والخسارة الماديين وموازين القوة هى التى تحدد سياسات الدول الخارجية، وأنه لا صداقات ولا عداوات دائمة.

أرى غير هذا، الإقرار بعدم وجود قوة دولية قادرة على فرض احترام أحكام القانون لا يعنى أن القانون حِبر على ورق لا يهم، كما أتصور أن سُمعة الدول والقادة والثقة فيهم وبينهم بالغة الأهمية، الرئيسان ناصر والسادات لعبا دورًا بارزًا على الساحة الدولية، دور أكبر بكثير من قدرات مصر المادية، ولا يمكن لأى دولة، أيًّا كانت قوتها، أن تحارب كلما ارتأت هذا، وقواعد القانون مهمة لرسم حدود لما هو جائز ولتحديد ما لا يجوز، هذه القواعد ليست دائمًا عادلة، فالسمة الأولى للقواعد القانونية العمومية، تشمل كل الحالات، ولكن المهارة السياسية والعدل يقتضيان تقييم كل حالة وخصوصيتها على حدة. على أى حال، القانون مهم؛ لأنه يحد من أضرار تغوُّل القوة.

ويعيب أيضًا المدرسة الواقعية افتراضها أن الحساب الدقيق لتبِعات القرارات والسياسات أمر ممكن. وكما تعلمون، أَشرفُ بالعمل فى مركز فكر إستراتيجى نافذ، جزء من عمله صياغة سناريوهات، وشهادتى أن التوقع الدقيق عملية شِبه مستحيلة، على سبيل المثال… كون السيد نتنياهو اعتاد اللجوء إلى تكتيك ما، أو تجاهَل رأى الجميع مثلًا، لا يعنى أنه سيسير على النهج نفسه فى المستقبل. ولاستحالة التوقع تبِعات؛ أهمها ميل القادة والدول إلى سلك سلوك يتفق وقيمها، إلا لو كان فى هذا ضرر واضح بيِّن. ويمكن أن يضاف إلى هذا أن مصالح أى دولة متنوعة وربما متناقضة، وأن بعض ما هو ضرورى على المدى القصير يكون كارثيًّا على المدى الطويل… إلخ.

هل يمكن القول إن سياسة الرئيس ترامب “واقعية”؟ تنتمى إلى المدرسة الواقعية؟ يحاول بعض من يطبل لها أن يبررها بكلام من عيّنة “لا صداقات ولا عداوات دائمة”، و”موازين القوة فى صالح روسيا وإسرائيل”، “لا تستطيع الولايات المتحدة التواجد على جبهتين ضد روسيا من ناحية وضد الصين”.

نكرر أولًا… إن كنت تتذرع بمنطق موازين القوة لشرح تخلّيك عن حلفائك ولدعم سياسات توسعية ومنهج تطهير عِرقي، فعليك احترام هذا المنطق ولا تقدِّم تنازلًا تلو التنازل، دون أن تكون مُجبرًا على ذلك ودون أن تحصل على شيء.

ونقول ثانيًا… كيف تقيس موازين القوة؟ تستطيع أن ترى أن الصراع فى منطقتنا صراع بين إسرائيل و”حماس”، وتستطيع أن تقول إنه صراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، ونستطيع أن نقول إنه مواجهة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والإسلامية، والشيء نفسه فيما يخص العدوان الروسى على أوكرانيا، هل هى حرب بين روسيا وأوكرانيا؟ أم صراع شرس لم يصل إلى درجة الحرب بين روسيا وأغلب دول أوروبا؟ أو بين روسيا وأغلب دول المعسكر الغربى باستثناء الولايات المتحدة؟ قد تردُّ قائلًا: بل صراع بين روسيا ووراءها الصين، وأوكرانيا ووراءها أوروبا ودول أخرى. لكن مثل هذا الكلام يعنى أن هذه الحرب جزء من مواجهتك مع الصين.

أعرف طبعا أن كلامى تبسيطيّ وفيه شيء من الخلل، فالمواجهة بين إسرائيل وفلسطين حيوية بالنسبة للفريقين، وبدرجة أقل – وإن كانت بالغة الأهمية – بالنسبة لمصر، ويبدو أنها أقل أهمية لدول أخرى، والشيء نفسه فيما يخص حرب أوكرانيا، هى وجودية لأوكرانيا، وليست كذلك للآخرين.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية