تأملات فى السياسة الخارجية للرئيس ترامب 3
أسمع فى عدد من الأوساط المثقفة والمهتمة بالشأن العام دفاعًا عن الرئيس ترامب يُشيد بصراحته، ويقصد بهذا أمرين؛ أولهما أن الرئيس ترامب يفعل فى العلن ما كان يُفعل فى الكواليس، وثانيهما أنه يكشف حقيقة طبيعة العلاقات الدولية القائمة على القوة والخشونة، وإن ادّعى الليبراليون عكس هذا، ويقارن هذا الرأى خطاب وسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة بخطاب وسياسات الليبراليين المائلين إلى اليسار، وهو خطاب يدّعى التمسك بالأخلاق والدفاع عن أهميتها فى السياسة، ويوبّخ الآخرين، فى حين أنه يُخفى سياسات وضيعة وقصيرة النظر وشرسة فى الدفاع عن المصالح، ويزعم أن الولايات المتحدة أو أوروبا متفوقتان أخلاقيًّا، وأن هذا التفوق الأخلاقى يلقى على عاتقهم مسئولية الارتقاء بأداء كل دول العالم، وفى المقابل يتيح لهما وضعًا خاصًّا؛ لأن إضعافهما والمساس بمصالحهما إضعاف ومساس بمحامى الأخلاق.
كنت، وما زلت، من المندّدين والمنتقدين لسياسات الليبراليين المائلين إلى اليسار؛ ليس فحسب لأننى لم أر فيها تجسيدًا للأخلاق، بل تعاليًا مقيتًا يرقى إلى درجة ادعاء النبوة، إضافة إلى ذلك أذهلنى جهل هذا الفريق بأبجديات الإستراتيجية والجغرافيا السياسية والعلوم العسكرية والاجتماعية، وافتقاره إلى أى ثقافة تاريخية أو فلسفية، وعدم انتباهه إلى تبِعات تصرفاته… تتدخل فى شئون غيرك الداخلية وتحاول إضعاف شرعيته، ثم تستغرب أنه لا يُكن الود لك، تُوسع من دوائر تدخُّلك، وفى الوقت نفسه تقلل إنفاقك الدفاعي. هذا الفريق تصوَّر أن خطاب التوبيخ والتحقير يستطيع أن يقوم مقام العمل السياسى الجاد الحصيف.
لا يعنى ما قيل فى سياسات الليبراليين، خلال العقدين الماضيين، أنه يجب تطليق كل القيم الليبرالية والديمقراطية، نظامٌ عالمى مبنيّ على قواعد أحسن بكثير من نظام عالمى لا يعتمد إلا على شريعة الغابة، للدول الضعيفة مصلحةٌ مؤكدة فى تفعيل القانون الدولي، حل النزاعات بطرق سلمية أحسن من حلها بالعنف، ولا سيما فى عصر أسلحة الدمار الشامل وغيرها. الجيوش والإنفاق الحربى ضروريان لصدّ وردع من يفكر فى الاعتداء، لا يمكن التقليل من أهمية حرية حركة الأفراد والسلع والخدمات والأموال، ولا يعنى تأكيدها عدم تنظيمها ولا عدم مراقبتها.
أعرف طبعًا أن وجود عداوات سمة من سمات العلاقات الخارجية، وأن هناك حروبًا ومجازر، وشعوبًا واقعة تحت الاحتلال، وأعرف أن القانون الدولى لا يُحترم فى عدد مؤسف من الأحوال، وأن عددًا من الأطراف يرى فى العنف البالغ وسيلة حلالًا لتحقيق الأهداف، فى أحوال الظلم البالغ وعجز الدبلوماسية والعمل القانونى عن إنهائه وفى غيرها، وأعرف أن هناك فاعلين يفضّلون دائمًا اللجوء إلى البلطجة وإلى القوة، ويمجّدون العنف والخشونة، ويطمعون فى أراضى وثروات غيرهم، وأن هناك نزاعات قديمة لا يمكن حلها. كل هذا يمنع الاستسهال الساذج، لكنه لا يعنى قبولًا يائسًا ومتشائمًا لاستباحة سفك الدماء ولشريعة الغابة. وموقفى هذا ليس أخلاقيًّا بل هو نفعي، إذ أعرف أيضًا أن دخول الحرب سهل، والخروج منها صعب، وأنها دائمًا حاملة لمفاجآت قاسية لا يشتهيها عاقل، وأن أول ضحايا الحرب الخطط الحربية، وأن العنف يولّد العنف، كما أعرف أن الثقة والعلاقات الطيبة بين القادة ضرورية فى العلاقات الدولية، شأنها شأن الشك ورفض السذاجة، وأن قدرًا معقولًا من الاستقرار المبنيّ على القانون والمؤسسات والأُطر وموازين القوة يفيد الأغلبية العظمي.
من المبكر طبعًا إطلاق الأحكام النهائية على سياسات إدارة عُمرها أقل من شهرين، لكن يبدو مؤكدًا أنها أضرّت ضررًا لا يمكن قياسه ولا تقدير تبِعاته بمصداقية الولايات المتحدة وبالثقة فيها، تعامُل هذه الإدارة مع حلفائها وطمعها فى أراضيهم وابتزازهم وموقفها من التزاماتها هي… كل هذا يدفع عددًا من شركائها لامتلاك السلاح النووي، ويدفع الاتحاد الأوروبى إلى التفكير فى تغيير موقفه من الصين، وفى تقليل الاعتماد على المنتجات الأمريكية…
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية