تأملات فى السياسة الخارجية للرئيس ترامب 2
كل قرارات الرئيس ترامب توحى بأنه يرى فى الدول الأوروبية فاعلًا أو فاعلين مناوئين، وربما أكثر، وأنه يعتقد أن هذه الدول عبء ثقيل يقيّد من حرية حركة الولايات المتحدة، وطُفيليات استغلت طيبة قلب وغباء أسلافه الأمريكيين، ومنافسون فى المجال الاقتصادي، وركاب لا يدفعون التذكرة فى مجال الدفاع والأمن، وممثلون لعدد من المنظومات – النظام الدولى المبنيّ على قواعد، حلف الناتو، ثقافة ليبرالية غير متدينة مائلة إلى اليسار- لا يطيقها، ودول دون موارد أولية بل تُزاحم الولايات المتحدة فى هذا المجال.
ومتابعة سياساته فى الملفين الأوكرانى والفلسطينى توحى بأنه يرى أنه يحق للطرف الأقوى عسكريًّا أن يُعظم من مكاسبه الاقتصادية، سواء أكان المعتدى أم لا، وأن أى طرف ضعيف مسئول عن ضعفه، ومن ثم لا يحق له أن يشكو، وأن عليه دفع إتاوات لشراء الحق فى الحياة أو السلام أو الحماية، وإنْ لم يقبل هذا فهو مخطئ ومسئول عما يحدث له.
ومتابعة سياساته الاقتصادية تكشف عن تصورٍ مفاده أن التجارة لعبة صفرية، وأنه لا يمكن تخيل وضع أو نشاط يكسب منه الطرفان.
ويبدو أن الرئيس يكره مفهوم الأحلاف، أيًّا كانت، ويرى أن الالتزامات التى تترتب عليها دائمة ومعوقة، أما مزاياها فهى تتناقص مع مرور الزمن، على فرض أنها أصلًا موجودة. والأحلاف تسمح لأطراف ضعيفة بأن تتكتل لمناطحة الكبار.
وإدمان هذا الرئيس ترديد الأكاذيب المفضوحة يدفعنى إلى التساؤل… هل يتصور أنه يحق للطرف الأقوى أن يقلب الحقائق ويقوم بتأليف ما يسميه هو «حقائق بديلة» ويفرضها على الكل.
علينا أن ندرك أن مقولات الرئيس الأمريكى ليست كلها خاطئة، ففعلًا أوروبا راكبٌ اعتاد عدم دفع التذكرة فى ملفات الأمن والدفاع، ونَعم هناك خللٌ ما فى مقاربة الاتحاد الأوروبى أو بعض دوله للاقتصاد والتجارة، ويمكن قطعًا انتقاد المنظومة الفكرية الليبرالية المائلة إلى اليسار من عدة زوايا؛ منها عدم فهمها قضايا الهوية والسياسات الدينية، وضرورات متانة الرابط الوطني، وعدم إدراكها حاجة الديمقراطية إلى هذا الرابط إن أرادت الازدهار، وسعيها الدءوب إلى تقييد قدرة وحق الساسة فى اتخاذ قرارات، وإلى إنكار الطابع السياسى عدة ملفات مهمة. وأخيرًا وليس آخرًا يمكن القول إن أسلاف الرئيس ترامب مالوا إلى «تسويق» الأحلاف والمعاهدات أمام الرأى العام الأمريكى على أنها تسهم فى بث قيم أمريكية، وتقلل تكلفة الهيمنة، وتسهم فى تكريسها، ومن الواضح أن هذا الكلام يحتاج إلى نقاش؛ لأنه لم يتناول، بجدية، الالتزامات المتزايدة المترتبة على هذا.
الفساد الأخلاقى فى منطق الرئيس واضح، لكن السؤال المهم… هل يمكن أن تُكلَّل سياسات مبنية على هذه المقولات بالنجاح؟ وهل تحقق مصلحة الولايات المتحدة على المدى المتوسط؟
يلاحظ أن هذه المقولات لا تحتّم اتباع سياسة معينة، فهناك على الأقل خياران؛ المفاوضات الخشنة لإجبار الفاعلين على تغيير سلوكهم، أو قلب المائدة. ولا نعرف بالضبط ماهية نيات الرئيس الأمريكي، لكن تصرفاته توحى بأنه اختار فى عدد من الملفات الخيار الثاني، وفى ملفات أخرى الخيار الأول. وعلى العموم، يبدو أن الثابت هو تفضيل التفاوض مع كل دولة على انفراد، ومحاولة تفادى التعامل مع تكتلات، والتقلب الدائم لإصابة الآخرين بالدُّوار.
قلب المائدة… أمر يحتاج إلى تحديد، هل يعنى الصلح مع روسيا على حساب أوروبا وأوكرانيا لإبعادها عن الصين؟ هل يعنى الاتفاق بين الكبار على مناطق نفوذ لكل منهم؟ هل يعنى هدم أسس التجارة العالمية؟
وهناك أسئلة أخرى… هل يمكن لأوروبا الخضوع لواشنطن وقبول التضحية بأوكرانيا؟ هل كسب روسيا – على فرض أن هذا ممكن – يستحق خسارة أوروبا وأوكرانيا؟ وفى الشرق الأوسط، هل قبول كل ما تفعله إسرائيل حاليًّا يفيد إسرائيل نفسها؟ هل فقدان الكل الثقة فى واشنطن أمر لا يهم؟
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية