أترك مؤقتًا، هذا الأسبوع، محاولة تقييم السياسة الخارجية للرئيس بايدن، لأخوض فى موضوع الساعة – الرئيس ترامب. بدايةً، أقول لمعارضته الأمريكية… قلتم مرارًا إن هذا الشخص سيئ جدًّا، ولا يصلح قائدًا لأى دولة، ناهيك عن الولايات المتحدة، وكان لديكم أدلة وبراهين… أغلبها مقنع… لكنكم لا تتساءلون أبدًا كيف استطاع هذا السيئ جدًّا أن يهزم مرشحكم مرتين، وهذه المرة كان نصره مبينًا. وأقول: إننى عاجز عن قبول الحجج التى تُعفيكم من المسئولية من عينة… دعاية روسية مضللة… أو… ذكورية المجتمع الأمريكى ورفضه ترشيح امرأة… ولا سيما إن لم تكن بيضاء… أو جهل الناخب، أو جبروت إيلون ماسك المالي، لا أقول إن بعض هذه العوامل أو كلها لم تلعب دورًا… لكنها غير كافية لتفسير النصر المبين لمرشحٍ صدَرَت ضده أحكام جنائية.
أقصد أننى لا أسعى إلى الدفاع عن السياسة الخارجية لأسلافه ومُنافسيه الديمقراطيين، ولا عن سياستهم الداخلية طبعًا، فهى لم تكن موفَّقة. فى اختزال مُخل أقول إن سياسة الرئيس كلينتون قامت على الجمع بين الإكثار من الالتزامات والمهامّ، والتمدد اللانهائى مع تخفيض حاد فى ميزانية الجيوش، وأشير إلى كونى مقتنعًا بوجاهة مبدأ تمدد الناتو شرقًا، لأسبابٍ يطول شرحها، لكننى أرى أن أسلوب التمدد لم يكن موفقًا.
الرئيس أوباما ما زال إلى اليوم معبود الليبرالية المائلة إلى اليسار، والصراحة لا أعرف أى نجاح له فى أى ملف سياسة خارجية أتابعه، مع الإقرار بأننى لا أتابع كل السياسة الدولية، وكان منهجه فى السياسة الخارجية هو عكس نصيحة الرئيس ثيودور روزفلت، الذى قال، ذات مرة: تكلمْ بصوت خفيض، واحمل فى يديك عصا غليظة. كان منهجه المعايرة السهلة، وسلوكه تحديدًا فى أزمة القرم – أقصد تقاعسه – شجَّع الرئيس بوتين على اتباع سياسة توسعية خشنة وعدوانية.
وحصاد السياسة الخارجية للرئيس بايدن به من البقع السوداء ما يشوهه تمامًا… رغم خبرة الرئيس الواسعة فى السياسة الخارجية، وكما تعلمون أحاول تقييمه فى هذا العمود.
ملاحظة تمهيدية… فى كتاب الجمهورية لأفلاطون، يقول أحد المشاركين فى الحوار إن البراعة السياسية هى أن تبدو عدولًا ومن أصحاب الفضيلة، فى حين أنك فى الواقع عديم الأخلاق لا تفكر إلا فى مصلحتك. ولتوضيح الفكرة، البراعة مثلًا فى أن تكون لصًّا سارقًا للملايين دون أن يدرى أحد هذا، ولكنك محبوب لأنك تدعم الكثير من الفقراء والمحتاجين.
من الصعب، وغالبًا من المستحيل، أن تتبع سياسة أخلاقية، فالأخلاق تقتضى أن تفعل الخير، بصرف النظر عن النتائج والتبعات، ودون انتظار مقابل، فى حين أن السياسى عليه أن يحسب التبعات، هذا من واجباته كسياسي، لكن أغلب الساسة يحاولون إقناع العامة والفُرقاء أن سلوكهم أخلاقي، والرئيس ترامب من الأقلية التى تفتخر بوقاحة بسلوك قائم على سحق الضعفاء والضحايا وعلى نفاق الأقوياء والذين لا يترددون فى اللجوء إلى العنف البالغ.
هناك مشكلة فى سياسات كل من الرئيسين أوباما وترامب، مع اختلافات بينهما فى درجة الحدة. الاثنين قاسيان على حلفائهما مهادنان لأعدائهما، وأتصور أن الاثنين مقتنعان بأن المشكلة ليست فيهما، بل فى أخطاء أسلافهما فى اختيار الأصدقاء وفى تحديد الأعداء؛ أى أنهما فى تصورهما يتخليان عن حليف أو صديق لأنه لا يشرف ولا يخدم، ويميلان إلى افتراض أن أعداء بلادهما هم فى الواقع أعداء الإدارة أو الإدارات التى سبقتهم، وآنَ التخلى عن الأصدقاء وسحقهم، ومهادنة الأعداء مجرد تصحيح للأوضاع.
ومع إدراكى أن لا أصدقاء ولا أعداء دائمون فى السياسة، ومع استيائى من الساسة الكثيرى الثرثرة عن الأخلاق، تصيبنى قرارات وتصريحات الرئيس ترامب بذهول واشمئزاز، لا أراها ثمرة حسابات، بل تعبيرًا عن كراهية دفينة لا عقلانية لقيم ومواقف لا تستحق كلها الرمى فى الزبالة، أرى ما تدمره والضرر الذى تتسبب فيه، ولا أرى مبرراتها ولا فائدتها.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية