خواطر مواطن مهموم 275

توفيق اكليمندوس

9:55 ص, الأحد, 5 يناير 25

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:55 ص, الأحد, 5 يناير 25

الذكاء والغباء فى السياسة – نظريات المؤامرة 4

أغلب الذين تصدّوا لدراسة ظاهرة نظريات المؤامرة حرصوا على شرح شعبيتها العابرة للثقافات بإبراز الوظائف التى تضطلع بها، وهذه المقاربة مثمرة، وإن كانت تكملة الصورة تقتضى دراسة البنية الروائية لهذه النظريات، وعلاقتها ببعض سمات الواقع: نعم، هناك خطط سرية، ونعم هناك أشخاص أو جماعات مصالح أو تنظيمات لا شرعية لهم ويملكون قدرًا هائلًا من النفوذ وقدرة على العمل فى الكواليس بعيدًا عن الأنظار. ونعم، يمكن استغلال القدرة على التأثير دون أى رقيب لتحقيق أهداف شريرة، أو حتى أهداف نبيلة لم تنلْ موافقة الرأى العام، ونعم هناك فى أحوال كثيرة تنسيق بين فاعلين يبدو صعبًا تصديقه.

ولكن نظريات المؤامرة تقوم على فرضيات إضافية، منها مثلًا أن كل ما يكون ظاهرًا يكون كاذبًا مخادعًا أو ثانويًّا بالضرورة، وأنه يخفى الحقيقة التى تكون حتمًا ودائمًا مختلفة اختلافًا تامًّا عنه، وأن الذكاء السياسى هو “كشف” هذا الخفى المستور، وطبعًا فى أغلب الأحوال لا يمكن “كشف” مؤامرة لأنها غير موجودة أصلًا، لكن العجز عن العثور على أى دليل يسمح بالكلام عن المؤامرة، لا يُفهم منه أنها من بنات خيال الباحث عنها، بل يُفهم منه أن المتآمر عبقرى وأنه أجاد إخفاءها، ونخلص إلى نتيجة مجنونة؛ وهى أن خير دليل على وجود مؤامرة هو عدم وجود أى دليل عليها.

وهناك بين مدمنى نظريات المؤامرة من يدرك أن هذا المنطق غير المنطقى لا يستقيم، لذلك نجده يرى فى بعض الوثائق والشواهد دليلًا قطعيًّا، دامغًا، فى حين أنها لا تعدو، على أحسن الفروض، أن تكون أكثر من قرينة شديدة الهشاشة، عندما تقول وثيقة أمريكية “لا نتوقع أن تتغير خريطة التحالفات فى الشرق الأوسط ما دام ناصر رئيسًا لمصر”، يستنتج أصحابنا أن هذه الوثيقة دليل قاطع على وجود نية اغتيال الزعيم البطل. لا نقول إن هذا “مستبعَد تمامًا”، لكننا نقول إن الأرجح أن هذه الجملة مجرد توقع، وأنه لا يمكن اعتبارها دليلًا حاسمًا.

نقرأ كتابًا لجامعى غربي، يرى فيه أنه لا استقرار لمنطقة الشرق الأوسط إلا إن انقسمت الدول الحالية إلى دويلات، ثم نعلم أن هذا الجامعى قابلَ وزير الخارجية الأمريكي، أو شخصًا يعمل فى مكتب مستشار الرئيس للأمن القومي. نقفز بسرعة إلى الاستنتاج التالى الذى يبدو لأول وهلة منطقيًّا، التوقع ليس تنبؤًا بل توصية، الجامعى عرض حتمًا توصيته على المسئول، المسئول حتمًا تبنّاها، وأقنع حتمًا رئيسه بالعمل وفقًا للتوصية، وبرسمِ سياسته لتحقيقها.

تنويع… المسئول لم يقابل الجامعي، لكنه كان من طلابه عندما كان يدرس، ومن هنا نقفز إلى عدة استنتاجات؛ وهى أن المسئول اقتنع حتمًا بكلام أستاذه، وحاول حتمًا أن يطبقه عندما وصل إلى موقع يتيح له رسم سياسة بلده أو المساهمة فى رسمها.

لا نقول إن هذا مستحيل، بل مستبعد، أولًا التنبؤ ليس توصية، وثانيًا فى مثل هذه المقابلات لا يحدد الجامعى موضوع المناقشة، من يحدده هو المسئول، دعونا نفترض أن التوقع هو فى الواقع توصية، وأن الجامعى عرض «مشروعه» على المسئول، ماذا سيفعل هذا المسئول؟ نفترض أن الجامعى نجح فى إقناعه، وهذا لا يحدث كثيرًا، لكنه يحدث أحيانًا، هل يمكن للمسئول التفكير فى رسم خطة، وفى بداية التنفيذ دون إخطار أحد؟ طبعًا لا.. إن كان التغيير المزمع إجراؤه عميقًا هيكليًّا، فسيحرص المسئول على استشارة جامعيين آخرين، ومن تعامل مع الوسط الجامعى يعلم أن الاختلاف الحاد هو الأصل، وأن الإجماع استثناء، وعلى فرض وجود إجماع على تحبيذ هذا الخيار، هل يستطيع المسئول إجبار الجميع على الاحتفاظ بالسر، عامة الجامعيين والكوادر كثيرو الكلام، وعلى فرض أنهم التزموا السكوت، وأن الفريق الذى كُلف برسم الخطة التزم بالسكوت، فهل يمكن تنفيذها فى سرية تامة؟ لا.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية