عن الذكاء والغباء فى السياسة – نظريات المؤامرة 3
الإيمان بنظريةٍ ما من نظريات المؤامرة ظاهرة عالمية، نجد دائمًا جمهورًا على استعداد لتبنّى وتصديق نظرية من هذا النوع، الكثيرون يبحثون عن مؤامرة، ويتصورون أن «اكتشافها» السبيل الوحيدة لتوضيح المشهد وتاريخه، الفارق الرئيس بين دولة وأخرى قد يكون فى مدى اقتناع النُّخب بها، وفى موقفها منها؛ هل تروّج لها أم تحاول التصدى لبثّها.
لا تعنى هذه العالمية أن دوافع تبنّيها واحدة، لا تختلف من ثقافة سياسية إلى أخرى، هناك طبعًا مشترك، وهناك أيضًا اختلافات كبيرة. على سبيل المثال، هناك فى تاريخ دول أو منطقةٍ ما سوابق قد تُسهل الإيمان بنظرية المؤامرة، فى منطقتنا لعب وعد بالفور واتفاقيات سايكس بيكو دورًا محوريًّا ومؤسسًا فى مسارنا، وقطعًا مِن حقنا اعتبار هذا التصريح وهذه الاتفاقيات مؤامرة. وفى أوروبا الشرقية لعب الاتفاق السرى بين هتلر وستالين دورًا مماثلًا. طرفان يتفقان فى الخفاء على تأسيس وضع جديد يضر عدة شعوب ضررًا بليغًا ويدوم وقتًا طويلًا، طبيعى أن تؤمن أجيال وأجيال من الشعوب الضحية بوجود مؤامرات، وألا يقتنعوا بأن المؤامرة هى استثناء نادر وليست القاعدة فى السياسة وفى العلاقات الدولية.
مثال اتفاقيات سايكس بيكو يساعدنا على تحديد بعض أسباب شيوع وشعبية نظريات المؤامرة، لا شك أن «السرية» سمة تُميز جوانب كثيرة من العمل السياسي، هناك تنظيمات سرية، وخطط سرية، ومفاوضات سرية، وتأثير ومناورات فى الكواليس، ونستطيع كلنا ذكر بعض الأسماء لأشخاص أو منظمات لها تأثير ونفوذ كبيران دون أن يكونوا من الحكام أو من ممثلى الشعب، وعندما تكون السرية سمة منتشرة بل غالبة، من السهل إطلاق الشائعات، ومن الطبيعى افتراض الأسوأ، ومن البديهى أن نحاول الربط بين ظواهر لا علاقة واضحة بينها.
ولكن هذا الطبيعى البديهى السهل خطر، ويدفعنا إلى فهم خاطئ للأمور، فهو يعبر عن بعض نقاط ضعف ثقافتنا السياسية أو ثقافة غيرنا، من الواضح أن الكثيرين هنا وهناك يميلون إلى التقليل من أهمية حرية الفرد، وإلى توسيع مجال الحتمية، وإلى عدم فهم تأثير التعقيد المتزايد للقضايا والملفات، وأن الكثيرين هنا وهناك يفترضون دوام سوء النية والرغبة الشريرة عند أصحاب القرار، كما يفترضون أن الساسة أذكياء شبه معصومين من الخطأ.
شيء من التفصيل يوضح المقصد. نظرية المؤامرة تفترض أن أى واقع جديد ثمرة نشاط أو قرار سريين لأشخاص مؤذين تعمدوا إيجاده، وأنهم يكنّون عداوة وجودية للمفعولين به وتحتقرهم، وأن أى فاعل يتخذ قرارًا ما ملم بكل جوانب الموقف، وأن مصالحه واحدة واضحة لا تناقض بينها، وأنه متوقع بدقة ردود فعل كل الفاعلين، وأن أغلب الفاعلين مفعول بهم، فهم، وفقًا لهذه النظرية ككلب بافلوف، ردُّ فعلهم متوقع ولن يحيدوا عنه، وتفترض أن لكل الفاعلين أصحاب القرار، والمؤامرات على اختلاف أديانهم وجنسياتهم وتياراتهم السياسية ثقافة سياسية واحدة ومعايير واحدة، وأن هذه الثقافة دائمًا شريرة وقادرة على كل شيء دون أى حدود وكأنها المولى عز وجل! وقد يحاول أصحاب نظريات المؤامرة إخفاء هشاشة هذه الافتراضات بمزاعم تبدو علمية تُضخم من دور المؤسسات ومن مهاراتها ومن معرفتها بأحوال العالم وبقدرتها على صياغة خطط مدروسة بعناية، وبفرض واجب كتمان على كل المنخرطين فى صياغتها. ووفقًا لهذا التصور؛ المؤسسات هى المحركة، ورأس الجهاز التنفيذي، أيًّا كان، ما هو إلا طرطور، وإن اختلف خط رئيس عن خط سلفه فهذا مجرد توزيع أدوار تشرف عليه الأجهزة.
وإضافة إلى كل هذا، تفترض هذه النظريات أن المؤسسات تستطيع ألا تلتفت للمشكلات اليومية العاجلة أو أن تحجمها أو أن تتعامل معها بيسر وبأساليب لا تعرقل تنفيذ الخطط الجهنمية الطويلة الأجل.
نقوم، فى المقالات التالية، بتقديم شرح مدعم بأمثلة يوضح هشاشة وتفاهة هذه التصورات وبطلانها.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية