خواطر مواطن مهموم 271 .. عن الذكاء والغباء في السياسة (3)

توفيق اكليمندوس

10:38 ص, الأحد, 8 ديسمبر 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:38 ص, الأحد, 8 ديسمبر 24

السياسة مجال فريد، قد لا تهتم بها، لكنها تهتم بك، قد لا تؤثر عليها لكنها تؤثر عليك، وهى مجال يتحول فيه عدد كبير من الأذكياء والنوابغ إلى حمير. فعالم السياسة حافل بحمير ظلوا حميرًا، وحميرٍ أصبحوا فجأة أذكياء، أو على الأقل من أصحاب الأداء المعقول جدًّا، وأذكياء يتحولون إلى حمير أول ما يدخلون هذه الساحة، وقلة قليلة جدًّا من الأذكياء الذين يحافظون على ذكائهم وهم يتحركون ويسبحون فى بحارها.

أشعر بحيرةٍ شديدة فى تفسير عدد القرارات شديدة الغباء التى يتخذها السياسيون الأذكياء فى دول متقدمة، فى العلوم بصفة عامة، وفى العلوم الإنسانية بصفة خاصة، والمتمتعة بتراكم معرفى مذهل، وبعدد كبير من المتخصصين الأكْفاء، وصاحبة تاريخ عريق فى الممارسة السياسية.

بدايةً، نقول إن الأوساط السياسية المعاصرة تشهد فائضًا من المغفلين، أتساءل أحيانًا هل ترك النوابغ وأصحاب المواهب العمل السياسى أو العمل العام ليتسابقوا على الأنشطة والوظائف عالية العائد فى القطاع الخاص؟ هل هذا الإحجام على فرض حقيقته ابن الخوف المبرَّر من تغول الإعلام بصفة عامة، والإعلام المضلل بصفة خاصة مع ازدهار القنوات الإخبارية والإذاعات الخاصة ومواقع الاتصال الاجتماعي؟ ومن قدرتهم على التشهير وعلى التشنيع؟ هل أصبح المجال السياسى الملاذ الآمن لمن لا يمتلك مهارات ومعارف؟

قد يكون تكاثر عدد الأغبياء فى المجال السياسى أحد أسباب تدهور الأداء السياسى فى الدول المتقدمة؛ لأن الحوار معهم ضرورى وإن كان لا يفيد، ويتسبب فى تدهور مستوى الفكر وتناول القضايا والجدل، ويتعود الأذكياء على ترديد كلام تافه وتبسيطى تبسيطًا مُخلًّا، ويفاجَأوا بعد ذلك بأن هذا الكلام يقيدهم، ويؤطر تحركهم ويضع حدودًا عليها تؤثر بالسلب على فاعليته، وأحيانًا نجدهم صدّقوا كلامهم الفارغ وآمنوا به.

هناك أشكال متعددة للذكاء، قد تكون ذكيًّا فى مجالٍ ما، شديد الغباء فى مجال آخر لعجزك عن فهم منطقه، وإحدى مشكلات السياسى أن مهارات الوصول إلى الحكم تختلف اختلافًا كبيرًا عن مهارات ممارسته، فى فرنسا – الدولة الغربية التى أعرفها جيدًا – هناك عدد من الوزراء السابقين على قيد الحياة، يُعدّون رجال دولة من الطراز الرفيع النادر، لكنهم لا يمتلكون المهارات التى تسمح بالفوز فى انتخابات رئاسية. وفى الصدد نفسه، من الواضح أن العبقرى فى “المقالب” قد يكون عاجزًا عن صياغة سياسات طويلة الأجل، وأن البارع فى إدارة توازنات قد لا يكون قادرًا على إجراء تغييرات هيكلية قد تكون مطلوبة… إلخ.

أتصور أن إحدى المشكلات الكبرى وُلدت مع العصر الحديث، وهى كم المجهود المطلوب للنبوغ فى تخصص دقيق، أو حتى للوصول إلى مستوى معقول فيه، والإنسان، أيًّا كان، غير قادر على جهد لا محدود، الوقت الذى أستثمره فى فهم قضية معينة يتم على حساب فهمى لقضايا أخرى وعلى حساب تعميق ثقافتى العامة، وفهم لغة الأرقام أمر، والقدرة على اختيار موفق للأولويات أمر ثانٍ، وفن تقييم الرجال واختيار المعاونين أمر ثالث. والقدرة على الاستماع أمر، والقدرة على الإقناع أمر آخر.

ويفاقم المشكلة كوننا نعيش فى عصر السرعة والطغيان الإعلامى، المطلوب من السياسى سرعة رد الفعل، على الأقل لكى لا يترك المنافسون ميزة صياغة الرواية والخطاب، ولأن تبِعات أى تأخير قد تكون جسيمة فى عدد كبير من الملفات، وللأسف… العجلة من الشيطان كما يقال.

إدارة علاقة الحاضر بكل من الماضى والمستقبل ليست بالأمر اليسير، قيل عن ملك فرنسا الذى تولّى الحكم بعد هزيمة نابليون إنه لم ينس أى شيء ولم يتعلم أى شيء؛ فى إشارة إلى بعض مشكلات العلاقة مع الماضى، ويقال أيضًا إن سبب هزيمة فرنسا فى الحرب العالمية الثانية هى أن قادة جيشها خططوا “للحرب الماضية”، دون فهم تأثير الأسلحة الجديدة على مجرى المعارك.

يتبع

أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية