عن الذكاء والسياسة
أمرٌ شغل بالى ويشغله، هو الأداء الغبى لرؤساء أمريكيين وأوروبيين كانوا من النوابغ والأوائل فى كل مراحل الدراسة. والأداء السياسى المتميز لسياسيين معلوماتهم سطحية وذكائهم محدود. وليسامحْنى القارئ إن لم أذكر أسماء محددة للأذكياء الذين باتوا من الحمير فى السياسة.
صديق فرنسى اهتم بالموضوع، وطالما تحدّث عن مشروعه.. تأسيس علم اجتماع الغباء، وأصدر مؤخرًا كتابًا لم أطّلع عليه، لكننى أتصور، من خلال مناقشاتى معه، أنه ركز على غباء عابر للتخصصات؛ أى عن أشخاص أغبياء فى حياتهم العامة السياسية والمهنية وفى حياتهم الشخصية.
أفكر فى كل التفسيرات التى سمعتها، وفى تلك التى خطرت على بالي. بعضها “نفسيّ” و”فرديّ”، فلان نرجسيّ لا يفكر إلا فى نفسه ولا يعبد إلا نفسه، علان طفل أو مراهق، يفهم جيدًا الأمور ولكنه غير قادر على السيطرة على غريزته وعلى رغباته، زيد عصبي، عبيد “ودني” يتأثر بالنميمة.
وهناك مشكلة “نفسية” جماعية، شئتَ أم أبيت، تفكيرى وتحركاتى متأثرة، بل محددة بكونى أكاديميًّا، حريصًا على سُمعتى الأكاديمية، وعلى التفوق على من ينافسنى فى مجالي، وعلى التعاون مع من أحبهم؛ اتفقوا معى أم لا. ما أقصده أن قواعد اللعبة فى الأوساط السياسية أو الحزبية، والعلاقات بين الأفراد المتحركين فيها، تلعب دورًا مبالغًا فيه فى عملية اتخاذ القرار، دورًا أكبر من اعتبارات الصالح العام، لا أقول إن السياسى لا يفكر فى الصالح العام، أو أنه يتجاهله متعمدًا، ما أقصده أن انخراطه فى وسط انخراطًا يأخذ أغلب وقته، يؤثر بالسلب على فهم الأمور.
فكرتُ، فى وقتٍ ما، فى التأثير السلبى للخلفية المهنية، دارس الحقوق يميل إلى التفكير بمنطق “كيف أكسب القضية”، وعندما يفكر فى قرار الحرب مثلًا يتساءل هل هذه الحرب قانونية، قبل أن يسأل نفسه: ما فرص التوفيق. الاقتصادى يرى أن الاقتصاد دائمًا أهم من الأمن، عدد كبير من الأكاديميين لا حِسَّ عمليًّا لهم، الموظف العام لا يفهم بسهولة عالم القطاع الخاص، وبصفة عامة كل صاحب تخصص يجد صعوبات فى فهم محددات سلوك وتفكير أصحاب تخصصات أخرى، وبعضهم لا يحس أصلًا بأن هناك مشكلة.
ويتصل بهذا قلة معلومات أغلب القادة المدنيين فى مجال الشئون العسكرية والإستراتيجية، وعجزهم عن فهم خصوصية العمل العسكري، وهنا يمكن توجيه اتهام لمحتوى مناهج كليات العلوم السياسية فى الغرب، والتنديد بتبعات إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية فى أغلب هذه الدول. ويمكن أيضًا مساءلة عدم اهتمام هذه الكليات بتدريس جادّ للتاريخ، الجهل بالتاريخ يؤدى حتمًا إلى عدم فهم الطبيعة البشرية والشخصية والثقافة الوطنية وثقافات الآخر، كما يؤدى إلى عدم فهم القضايا التى تثيرها “التبعات غير المتوقعة” لأى قرار.
وطبعًا يفاقم التعقيد البالغ للقضايا الحالية جسامة تبعات العجز عن الخروج من محددات التخصص العلمي. من الطبيعى أن المرء يعجز عن التعمق فى عدد كبير من الملفات، على سبيل المثال لا أفهم شخصيًّا آليات عمل البنوك، أو السياسات البيئية، رغم أهميتها بالنسبة لعملى بصفتى خبير شئون أوروبية.
قد أخوض فى مقال آخر فى الغباء الآيديولوجي.
أذكر تفسيرًا تقدَّم به فيلسوف غربى كان يتكلم عن رئيس دولته، “هو ذكى وحمار، كان تلميذًا نابغًا، أول دفعته، فى المدرسة وفى الجامعة، اقتنع تمامًا بأنه فاهم أحسن من غيره، ولم يفهم أن ما تعلَّمه كان صالحًا (شخصيًّا لا أعتقد هذا) فى المرحلة التاريخية التى درس خلالها، ولم يعد مناسبًا لتحديات اليوم”. وأضاف: “السياسة لا دعوة لها بالذكاء والنبوغ فى المدرسة، السياسة تتطلب فهمًا (فطريًّا) لخصوصية كل ظرف، ولتطلعات الجماهير وآمالها، وكيفية مخاطبتها لحشدها ولإقناعها، وهذا يتطلب معرفة لتاريخ الدولة ولمجتمعها”… وأضيف: “وقدرة على التعلم من الأخطاء”، وهناك من لا يتعلم أبدًا؛ لأنه لا يعرف أنه بحاجة إلى التعلم.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية