عن السياسة والأخلاق 4
يمكن تلخيص المشكلة التى يجب حلها عندما نسعى إلى تأسيس فكريّ للمنظومة القيمية والأخلاقية المثالية كما يلى، هل هناك منظومة صالحة لكل مكان وزمان عابرة للثقافات والحضارات والأزمنة؟ أم هل لكل ثقافة منظومتها، ولكل مرحلة خصوصيتها؟ وهل هذه المنظومة من المعطيات أم ما يتم التوافق عليها؟
الرد الفطرى والرد الدينى وردّ فريق كبير من فِرق الفلسفة يرون أن المنظومة الأخلاقية القيمية واحدة فى كل زمان ومكان، لكن هناك مشكلة الاختلافات الكبيرة، والتناقضات الجوهرية بين الثقافات وبين المفكرين فى تحديد محتوى هذا الأمثل الصالح لكل مكان وزمان، هذه الاختلافات موجودة بين كل ثقافة وغيرها، وبين أبناء الثقافة الواحدة.
يمكن تفادى القضية بالقول إن عددًا كبيرًا من المنظومات القيمية والأخلاقية صالح لكل مكان وزمان، ويمكن أن نتجاهل المشكلات التى يثيرها تحديد المقصود بفكرة الصلاحية لكل مكان وزمان، ومعنى مفهوم الصلاحية، هل نقصد قابلية للتطبيق أم نقصد «تُحقق الخير فى كل مكان وزمان» أم «تُحقق، وحدها دون غيرها، الخير فى كل زمان ومكان». لكن يبقى أن اختلاف تعاليم كل منظومة أخلاقية – مثلًا فيما يخص العلاقات بين الذكر والأنثى – يطرح سؤال أسس وكيفية المفاضلة.
هناك طبعًا ما هو مشترك، الكل متفق على تحريم وتجريم القتل دون وجه حق، مع اختلافات كبيرة فى تحديد معنى «وجه حق»، وهناك إجماع على تجريم زنا المحارم واعتباره من الكبائر، ولكن تحديد مَن هم أهل القربى يختلف من ثقافة لأخرى، والكل، فى حدود علمى، متفق على تحريم وتجريم السرقة.
الاختلاف من سنن الكون، هل يمكن مثلًا القول إن مفهوم الحرية مشترك بين الثقافات ومنظومات القيم؟ هل يمكن الجزم بأن كل المنظومات تعرفه؟ وفيما يخص من تعرفه، وتقدسه، سنجدها تختلف فى تحديد مرتبتها بقائمة الأولويات، وسيختلف حولها أبناء المنظومة نفسها، على سبيل المثال هل الحرية أهم من الأمن أم لا؟ هل هى أهم من الوفاق الاجتماعى أم لا؟ هناك ثقافات ترى أن الحرية مشمولة فى مفهوم أوسع؛ وهو العدل، وثقافات تميز بوضوح بينهما… إلخ.
سنة من سنن الكون، وسمة من سمات الطبيعة البشرية، استحالة تجنب تحديد تراتبية للقيم، أو، بمعنى أدق استحالة الاتفاق على كيفية المفاضلة والموازنة بينها، إن كنا نعطى أولوية مطلقة للحرية، لن تكون هناك مساواة أو سياسات تسعى إلى تجسير أو تسديد الفجوة بين الطبقات، والعكس صحيح.
باختصار، الكثيرون يتفقون على وجود منظومة قيمية أخلاقية عابرة للقارات والأزمنة، لكن تعدد تصوراتهم يُضعف من صلابة الأرضية التى يقفون عليها، ومن قوة حججهم. وهناك من ينكر وجود مشكلة، ومن يسعى إلى التغلب عليها محاولًا تأصيل وتأسيس منظومة للمنظومات – ميتا – منظومة إن جاز التعبير- تقدس التعددية والاختلاف والتناقضات الداخلية الخلاقة، وهناك من يرى أن الحل هو الحوار بالتى هى أحسن، ودون اللجوء الصريح أو المستتر إلى القمع والترهيب، والمشكلة طبعًا أن هناك قضايا لا يمكن حلها بحوار.
وهذه التعددية ليست شرًّا، لأسباب كثيرة، فى عدد كبير من القضايا تكون استحالة التوصل إلى صيغة تكون بوضوح أفضل من غيرها نعمة من نعم الله؛ لأنها من ضمانات حرية الاختيار. أى حقيقة تفرض نفسها تُضيق من حرية الاختيار، وهذا لا يعنى أنه لا توجد قضايا محسومة. ومن ناحية أخرى التعرف على منظومات غير تلك التى ننتمى إليها يُعمق معرفتنا بمنظومتنا وبخصوصيتها ويسمح بالحوار البنّاء مع غيرنا من أجل عمل مشترك.
تتعدد مذاهب خصوم مفهوم منظومة أخلاقية صالحة لكل زمان ومكان، هناك من يرى أن فى كل مجتمع وفى كل مرحلة تاريخية منظومة أفضل بوضوح من غيرها، لكن ما يصلح هنا الآن قد لا يكون صالحًا غدًا، وهناك من يرى أنه لا يمكن إجراء مفاضلة أصلًا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية