خواطر مواطن مهموم 266

وكما أسلفنا فى مقالات سابقة، يصدّعنا الكل بمقولة الغاية تبرر الوسيلة وأنه لا أخلاق فى السياسة

خواطر مواطن مهموم 266
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:44 ص, الأحد, 3 نوفمبر 24

بين الأخلاق والسياسة (3)

استدعاء الأخلاق فى الخطاب السياسى إستراتيجية و/أو تكتيك منتشران سيئا السمعة، صدّعت الليبرالية الغربية العالم كله بمحاضرات عن الأخلاق وإملاءات الأخلاق ومقتضياتها، ولجوؤها الكثيف إلى العقوبات الاقتصادية وغيرها كرَّس انطباعًا عنها بأنها تتصور نفسها معلمًا للبشرية يرشدها ويضيء طريقها. ومما زاد الطن بلة الانتقائية، يعاقب الغرب بقسوة سلوكًا تارة، ويتغاضى عنه تارة أخرى. يتدخل فى الشئون الداخلية لمن لا يعجبه، وبغضب بشدة إن ردَّ الآخر على التحية بمثلها، أو إن سعى إلى بدائل تسمح له بالمناورة أو بالتغلب على تبعات العقوبات.

منذ أول يوم ندَّد عدد من الخبراء، هنا وهناك، بهذا النهج، وما زالوا، وحاولتُ المساهمة فى صياغة الانتقادات التى وُجهت له، ولستُ نادمًا على هذا، لكن أخشى ما أخشاه، اليوم، أن التنديد بسوء توظيف الأخلاق والقانون من قِبل الغرب يسهم فى تكريس مفاهيم خاطئة ومقولات فاسدة.

لا أقصد أنه يمكن اختزال مشكلات وتعقيدات العلاقة بين السياسة وكل من الأخلاق والقانون والعدالة فى مقولة «كلمة حق أراد بها طرف متعجرف باطلًا»، ولا أقصد أن سلوك الغرب يفسر كليًّا أو جزئيًّا بصعوبات تلك العلاقات الإشكالية بين هذه المفاهيم.

قد يكون من المناسب أن أَعرض بداية لبعض المقولات الفاسدة والمفاهيم الخاطئة التى أشرت إليها.

مِن أسخف ما أسمعه فى بعض الدوائر أن القانون الدولى كذبة ألّفها الغرب لتقييد سلوك الآخرين، وأن الدليل على هذا عدم تقيده بأحكامه عندما يروم ذلك. ولهذه المقولة مشتقات ومرادفات كثيرة؛ منها أن أى مخالفة من أى دولة غربية لأحكام القانون الدولى تثبت أن هذه الدولة، وربما غيرها، كذوبة بالسليقة، ومنها الاتهامات الدائمة والمبرَّرة بالكيل بمكيالين… إلخ.

وتسمع فى العواصم الغربية وفى إسرائيل مقولات سخيفة مضادة، أصوات عديدة تُسفه مفهوم القانون الدولى من منظور آخر؛ وهو أن هذا القانون تتم صياغة أحكامه بالتوافق أحيانًا، وبأغلبية الأصوات أحيانًا، وأن دول الجنوب حاليًّا تشكل أغلبية واضحة، وأن هذه الدول غير مستوعبة، ولا تريد أن تستوعب مبادئ العدالة، بل تفكر بمنطق قبلى أو بدافع انتقامى… تريد أن يدفع الغرب إلى يوم الدين تعويضات عن خطيئة الاستعمار، أو بمنطق مصالحها الضيقة المحلية لا يحد منها فهم لضرورات النظام العالمى.

وتسمع فى عواصم قوى صاعدة كلامًا من عيّنة أن مبادئ هذا القانون تم إرساؤها أيام الهيمنة الغربية، وهى هيمنة زالت أو فى طريقها إلى الزوال، ويجب إما عدم التقيد بها، وإما صياغة قواعد جديدة.

وكما أسلفنا فى مقالات سابقة، يصدّعنا الكل بمقولة الغاية تبرر الوسيلة وأنه لا أخلاق فى السياسة.

ويلاحظ أيضًا ميل تيارات سياسية وثقافية فى الشمال والجنوب إلى حسن الظن بكل من يناهض الهيمنة الغربية، أو على الأقل ميل إلى تفهم دوافعه، وإلى افتراض أن كل إدانة غربية لطرف وسام شرف على صدر المُدان، وغنيٌّ عن البيان أن هذا التعميم، شأنه شأن نقيضه، لا يستقيم.

أرجو من القارئ أن يتأمل تبعات عالم بلا قانون وبلا أخلاق تسود فيه شريعة الغابة، ولا سيما فى عصر يمتلك فيه أغلب الفاعلين، إن لم يكن كلهم، القدرة على الضرب المُوجع فى العمق. عالم يستسهل فيه الكل اللجوء إلى القوة، وتستحيل فيه التجارة الآمنة، ويعمُّ فيه منطق البلطجة. هذا التأمل لا يتطلب خيالًا واسعًا، يكفى أن نشاهد تطورات الأحداث فى إقليمنا المنكوب.

نعم، القانون الدولى غربى النشأة، ونعم لم تلتزم دائمًا الدول الغربية بأحكامه، ونعم ليست كل أحكامه عادلة لاستحالة هذا، هل يعنى هذا أنه أكذوبة؟ هل نريد التخلص منه أو العمل من أجل فرض الالتزام به على الجميع؟ هل أصله الغربى جعل مشاركة دول الجنوب فى صياغة أحكامه أمرًا لا يقدم ولا يؤخر؟

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية