ملاحظات حول التراشق ومسألة الأخلاق فى السياسة
على صفحات التواصل الاجتماعى التى أتابعها، هناك حرص كوميدى على تصوير الذات بوصفها حارسًا للأخلاق، وعلى تقديم المواقف التى يتبناها صاحب الصفحة على أنها خيرُ تجسيد للقيم، وعلى تصوير الرأى المخالف على أنه كاشف لتشوش فكرى وفساد أخلاقى، وهناك من يقول ويؤكد، بكل أريحية، أن السياسة لا أخلاق فيها، بل هى ساحة تكون الغلبة فيها للأكثر دهاء وقوة.
لى تفضيلاتى الفكرية والأخلاقية، لكنها ليست موضوع المقال، أريد أن أقول ما يلى: ليست هناك منظومة أخلاقية واحدة، بل هناك تعددية، وقد تكون أشهر ثنائية هى التى تميز بين «أخلاقيات القناعات» و«أخلاقيات المسئولية». أسوق مثالًا… تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، الذى قاد الإمبراطورية أثناء الحرب العالمية الثانية، كان يمقت الشيوعية وستالين، التصرف وفق القناعات يقتضى عدم التحالف معه، التصرف وفقًا لأخلاق المسئولية دفعه إلى تناسى رأيه فى النظام السوفييتى، والعمل معه لتحقيق النصر على ألمانيا النازية.
لا يعنى كلامى هذا أن التصرف وفقًا لأخلاق المسئولية هو دائمًا التصرف السليم، الموضوع أكثر تعقيدًا من ذلك، فلنبق مع تشرشل، عندما قرر سَلفه فى رئاسة الحكومة البريطانية، ورئيس وزراء فرنسا، التخلى عن تشيكوسلوفاكيا وتركها فريسة لمطامع هتلر المجنونة، لشراء السلام، فى اتفاقيات ميونخ 1938 المشئومة، قال تشرتشل – وكان أيامها نائبًا برلمانيًّا: «كنتم مخيرين بين الحرب والعار، اخترتم العار، ورغم ذلك فستحصلون على الحرب».
السؤال الذى يفرضه المثال السابق هو: هل الركوع أمام هتلر كان قرارًا مسئولًا؟ وهل كان قرارًا لا أخلاقيًّا؟ إنه قرار «بالتخلى عن شريك»، لكنه كسب وقتًا لتجهيز القوات. من المؤكد أنه غير أخلاقى فى تعامله مع التشيك والسلوفاك، وربما يكون أخلاقيًّا فيما يخص حفظ الدماء البريطانية، أقول: ربما؛ لأن تأجيل الحرب أفاد هتلر، كما أفاد البريطانيين.
اليوم، نعرف أن تشرتشل كان على حق؛ لأن قرار التخلى شجّع هتلر على مواصلة العدوان؛ أى لم يجنّب بريطانيا العظمى ويلات الحرب، لكن… ماذا لو… اكتفى هتلر بما حصل عليه فى هذه الاتفاقيات؟
قرار تشرشل برفض عروض هتلر للسلام بعد هزيمة فرنسا سنة 1941، وكفاح الشعب البريطانى العظيم فيما وُصف عن حق بأنها أعظم لحظة فى تاريخ المملكة، يُعدّان تمهيدًا مؤلمًا وضروريًّا لتخليص أوروبا من النظام النازى البربرى، لكن هذا الكفاح والقرار لم يصنعا لوحدهما النصر، النصر تحقَّق لأن هتلر فتح جبهة جديدة عندما غزا الاتحاد السوفييتى، وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب بعد اعتداء اليابانيين على أسطولها، وقرار هتلر إعلان الحرب ضدها. والسؤال يفرض نفسه… ماذا لو… لم يدخل الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة الحرب؟ هل كنا سنَعدّ النضال البريطانى بطولة أم عنادًا أحمق؟
نستطيع أن نتهرب من السؤال لنقول إن تشرشل قرأ مبكرًا كتاب هتلر، وتردَّد كثيرًا على ألمانيا بين الحربين، وكان شاهد عيان على وحشية الميليشيات النازية، وأنه فهم، على عكس غيره، أن النازية عدوانية بالسليقة وحركة إجرامية وعاجزة عن التوقف، وأن مواجهتها حتمية، وأنه «فهم» أن الولايات المتحدة ستضطر، إن آجلًا أم عاجلًا، إلى دخول الحرب، وأنه قدَّر أن موازين القوة فى صالح بريطانيا؛ لأنها متحكمة فى البحار، وغزوها صعب، وقاعدتها الصناعية قوية. كل هذا حقيقى… لكن يبقى السؤال… ماذا لو؟
هل أستطيع أن أضم صوتى لأصوات مَن يرون أن أقطاب المحافظين البريطانيين الذين كانوا يطالبون بمهادنة هتلر، حمير ولا أخلاقيون… الكلام سهل… أنا شديد الإعجاب بكل من تشرشل وديغول، هما من أبطال أوروبا العظام، وخلَّصوا، مع غيرهم، البشرية من أنظمة بشعة، لكننى لا أستطيع أن أقسو على من خافوا من ويلات الحرب.
لكن القضية لا تتوقف عند هذا الحد… مواصلة الحرب فى أحْلك الظروف كانت رهانًا أخلاقيًّا جريئًا، لكن هل كانت ضربًا من الجنون؟
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية