إعادة بناء الإنسان المصرى
أولًا وثانيًا وثالثًا هذه اجتهادات غير متخصص. ميزاته قليلة، معرفته بمجتمعيْن أحدهما شرقى، والآخر غربى، وقام – ويقوم – بالتدريس فى جامعات مصرية وفرنسية، وأمضى عمره يصارع عقده وتناقضاته وأفكاره.
بناء الذات أو بناء الشخصية مصطلح معروف، ويشير إلى أهم سمة فى الطبيعة البشرية؛ وهى قدرتها على الارتقاء والتحسن والنهوض، أو على تنمية خصال غير حميدة. هذا البناء دائم ويتم على مراحل. المولود الرضيع والطفل قد يبنيان أنفسهما، لكن الدور الغالب فى المراحل العمرية الأولى هو للأب والأم. ويلحق بهما فى مرحلة مبكرة نسبيًّا رجل الدين والمدرسة والأقارب والمحيط الاجتماعى، وفى وقتٍ ما يختلف، فى تصورى، من شخص لآخر، يتولى الطفل أو المراهق بناء نفسه بنفسه. وتستمر عملية بناء الذات العمر كله، قد تكون العملية واعية… يعرف الشخص أنه يتعلم ويحاول الارتقاء… أو غير واعية… نتعلم كلنا من تجاربنا ومشوارنا… وهذا لا ينفى أن هناك أقلية معتبرة لا تتعلم أبدًا لأنها رافضة للفكرة. أكتب هذا وفى ذهنى اسم رئيس أمريكى سابق… لا يوجد ما يوحى بأنه تعلّم أى شيء طوال مدة رئاسته.
وتلعب الثقافة العامة للشعب والنُّخب دورًا فى التربية. أطرح مثالًا أتصور أنه لن يتسبب فى مشكلات. هل هدف التربية تعليم التأدب أم تثمين الصدق فى التعبير وإن كان جارحًا؟ دعْنا نفترض جهة يتميز فيها أعضاؤها بالأدب ودماثة الخلق، كل الفريق شديد الأدب يقول دائمًا الكلام المناسب فى التوقيت المناسب، وهذا يضمن جو عمل مريحًا، لا منغّصات فيه، ويحث الكل على الإجادة، ويقوّى روح الفريق، لكن التزام الجميع بتكتم الخلافات وبعدم الخوض فى مسائل ما لأن «هذا لا يصح» أمر قد يتسبب فى دفن مشكلات كان الأفضل التعامل معها بسرعة. وتأمل… من خلال مشاهدة بعض المسلسلات الأمريكية… جهات تسود فيها المصارحة الخشنة، لا يتردد فيها الرئيس والمرءوس عن التنديد بهذا السلوك أو ذاك، وتبادل «الردح». فى مثل هذه البيئة، الجو متوتر، وقد يتسبب هذا فى تحسين الأداء أو فى تدهوره.
هل نريد تعليم الأدب أم الصدق؟ أعرف أن الرد السهل هو «الاثنان»، لكن الواقع يثبت أن الجمع بينهما صعب.
أتصور، من خلال المشاهدات، أن الأسرة المصرية تتأرجح بين نقيضين كلاهما ضار. دعونى أقل بدايةً إننى أرى، وقد أكون مخطئًا، أن البيئة الأسرية الأمثل هى بيئة يقل فيها الشجار العلنى – أقصد فى حضور الأطفال – بين الزوج والزوجة، وهى بيئة يضع فيها الوالد والأم حدودًا واضحة وثابتة إلى حد ما لما هو مسموح، هذه الحدود قد تبدو قهرًا وتسلطًا فى نظر بعض الغربيين، لكنها معالم استرشادية تساعد الطفل على تنظيم رؤيته للدنيا وفهمه لها، ومن ناحية أخرى قليل من القهر يعلّم كيفية رفض بعض الأوامر، دون التسبب فى فوضى. المشكلة فى مصر، كما أراها، أن الأسرة إما مُكثرة من الممنوعات ولا سيما فيما يخص البنات، أو مُقلة تمامًا فى وضعها ولا سيما فيما يخص الصبيان. ومن نافلة القول إن الأزمة الاقتصادية من ناحية، والثقافة الذكورية من ناحية أخرى، سببان رئيسان فى توتر العلاقات بين الزوج والزوجة، ويؤثر هذا على السلامة النفسية للأطفال.
عندما يتكلم الرئيس عن «إعادة بناء الإنسان المصري» فإنه يقصد أنه يعى تمامًا أن عمليات بناء الذات أصابها خلل وعطب، وأن أسباب هذا العطب والخلل جماعية قبل أن تكون فردية، وعندما يتكلم عن مقاومة التطرف يعطى لنا الرئيس مؤشرًا عن رأيه فى التوجه الحاكم لعمليات إعادة البناء، فالأمر يتعلق بتغيير البيئة النفسية التى تدفع الكثيرين إلى تبنّى الأفكار المتطرفة، وإلى محاربة الأفكار والتفسيرات المتطرفة، وإلى التعامل مع حقيقة مؤلمة؛ وهى أن عددًا كبيرًا يرى فى الالتزام بالتطرف والعمل على بثّه مصلحة مؤكَّدة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية