خواطر مواطن مهموم 259 خبير فى حيرة

خواطر مواطن مهموم 259 خبير فى حيرة
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

11:46 ص, الأثنين, 16 سبتمبر 24

أعرف بحكم التخصص وقراءاتى التاريخية، التأثير الكارثى أو على الأقل السلبى جدا لعدد كبير من القرارات، وأعرف بحكم هذه الدراسات أن أكبر فخ يهدد المؤرخ هو التقييم للقرارات الذى تؤثر فيه معرفتنا بمسار الأحداث بعد اتخاذه، معرفة تنسينا أن صاحب القرار لم يكن يعلم ما نعلمه اليوم من ردود فعل الفرقاء ومن قراءاتهم لسلوكه.

وفى ذاكرتى عدد كبير من القرارات الهامة التى بدت لى ولغيرى وجيهة وقت اتخاذها، ولكنها تسببت فى كوارث، إما لأن آثارها السلبية على المدى الطويل كانت أهم من المكتسبات على المدى القصير، وإما لأن النظام الدولى شاهد تغيرات لم يكن من الممكن توقعها، وإما لأن فرقاء آخرين قرروا إفساد الخطط لأسباب لم يكن من الممكن تخمينها وتوقعها.

على سبيل المثال لا الحصر شاهدنا دولًا قررت الاستغناء عن بعض الصناعات لأسباب وجيهة – وجود أولويات أخرى مثلا- ثم اتضح مع تغير الظروف وبعد فوات الأوان أنها إستراتيجية وضرورية.

مشكلة أخرى مرتبطة بهذا هى صعوبة تعديل الدفة، الدول كيانات ضخمة لا يمكنها تغيير سياستها بين ليلة وضحاها إلا فيما ندر، العالم يتغير بسرعة والمدركات والثقافات تتغير ببطء، ولا يمكن استرداد المهارات التى ضاعت فى يوم وليلة، الأطر والمؤسسات والأوضاع التى يوجدها القرار لا يمكن محوها بجرة قلم بدون خسائر كبيرة، تأمل مثلا العلاقات الأمريكية الصينية أو العلاقات الروسية الألمانية.

تقييم القرارات هو فى شق ضرورى منه تقييم للبدائل، وتقييم البدائل التى استبعدت أو لم يجرى التفكير فيها هو تقييم للغيب المجهول، عندما أقول لو كان فلانا فعل كذا لكان رد فعل الفرقاء كيت وكيت، أقول كلاما قد يكون معقولا وقد يكون غبيا، ولكنه قطعا غير مؤكد فى أغلب الأحوال، القراءة والثقافة السياسية والجيوسياسية والتاريخية والفلسفية ودراسة الثقافة السياسية للآخرين وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية ومدركات الفاعلين، تساعد على تضييق هامش الخطأ ولكنها لا تلغى احتماله.

ولكن هناك قرارات واضحة الخطأ منذ لحظة اتخاذها، ومعروف منذ أول ساعة أن تبعاتها ستكون سيئة وربما كارثية لصاحبها، ولجماعته أو دولته ولغيرهم.

وكثرة هذه القرارات وازديادها فى كل أنحاء المعمورة تصيب الخبير باليأس والحزن، هذه الأخطاء تحدث فى الدول الديمقراطية وفى غيرها، فى الأنظمة التى ينفرد فيها شخص بالقرار وفى تلك التى يكون فيها القرار جماعيا، فى الدول التى توجد بها مؤسسات عريقة وفى تلك التى لا تعرف مثل هذه المؤسسات، فى دول تقدس العلم وتحترم الخبراء وطبعا فى غيرها.

هل يمكن تفسير هذه القرارات السيئة بغباء صاحبها؟ أو بسيطرة أيديولوجية وأوهام على عقله؟ أو بفقدان أعصابه؟ أو بإحساسه بضرورة الهروب إلى الأمام أيا كان الثمن؟ أو بكونه من المقامرين؟ أو بضغط الرأى العام؟ كل هذا يحدث ويحدث كثيرا ولكن التاريخ يعرف عدة حالات يكون فيها الخطأ جماعيا، التفكير الجماعى لا يحصن ضد الخطأ الكارثي، حرب فيتنام وغزو العراق نموذجان معروفان.

أعرف حالة عجيبة، وهى تقدم حزب بوعود انتخابية مجنونة لأنه يتصور أنه لن يفوز بالانتخابات ويطمع فقط فى تحسين نتيجته ثم يفاجأ بوصوله إلى سدة الحكم بفضل أو بسبب هذه الوعود، ويحس أنه مضطر إلى الوفاء بها – أتكلم تحديدا عن الحزب الاشتراكى الفرنسى والبرنامج الذى تقدم به سنة 1997 .

يلاحظ أن حماقات الخبراء لا تقل عددا وجسامة عن حماقات السياسيين والجمهور، الاستماع إلى رأيهم ضروري، ولكن الاستماع شيء والأخذ بتوصياتهم شيء آخر.

أستطيع ذكر عدد ضخم من القرارات – اتخذت فى مناطق مختلفة – تلاها أفعال تسببت فى تشكيل المشهد الدولى الحالي، وفى كوارث محلية وإقليمية ودولية، وفى مجازر بشرية ودمار شامل، وأوجدت أوضاعا يستحيل فيها التراجع، ويستحيل فيها تحقيق مكاسب يكتب لها قدر من الاستمرارية ولا أقول الدوام.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

11:46 ص, الأثنين, 16 سبتمبر 24