خواطر مواطن مهموم 254 فى فهم تجربة جمال عبد الناصر

خواطر مواطن مهموم 254 فى فهم تجربة جمال عبد الناصر
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:51 ص, الأحد, 11 أغسطس 24

ما يعقد فهم عبد الناصر وتجربته قابليتهما للتحول إلى أسطورة، وأسطورة توظَّف لإضفاء شرعية على بعض المشروعات والمقاربات المعاصرة، أو لنزع هذه الشرعية أو شرعية غيرها، عبد الناصر أسطورة يتم استدعاؤها للمناداة بمنهج ومقاربة، أو للتنديد بهما.

يرى البعض فيه المخلّص والقائد البطل ونصير الفقراء، ويرى فيه الآخرون طاغية ومؤسس جمهورية الظلمات وسبب كل أو أغلب المصائب التى حلّت بمصر.

أريد أن أنوّه إلى بعض الأمور التى قد تبدو ثانوية، لكنها ليست كذلك، من ناحية يجب ألا تُنسينا كاريزما عبد الناصر الطاغية كون إنجازات عصره ثمرة جهد جماعى وفردى جبار، تأمل تنظيم المقاومة الشعبية سنة 1956 أو عملية إخلاء مدن القناة بعد النكسة حمايةً للمدنيين.

عندما يقول البعض إن ناصرًا كان زعيمًا ملهمًا قادرًا على تجسيد وتحقيق آمال الشعب، ننسى أن فهمه للقضايا والشئون الإستراتيجية كان عميقًا جدًّا، وطبعًا لم يمنعه هذا الفهم العميق من ارتكاب أخطاء مذهلة، وننسى أن تحقيق آمال الشعب اقتضى بناء، أو استكمال بناء، مؤسسات دولة وقطاع عام، والحرص على اكتسابهم المعارف. ونعرف طبعًا أن التجربة شابها أخطاء كبيرة، منها قبول التزام توظيف الجميع، وعدم وجود آليات تعمل وفقًا لمعايير واضحة فعالة تُحاسب المخطئين والمقصّرين، ومنها الإصرار على إهمال منطق المزايا النسبية، وفى المقابل ينسى المنتقدون أهمية توسيع قاعدة الكوادر والعمالة الماهرة والحماية الاجتماعية. عبد الناصر أوجد قلعة صناعية.

عندما يقول البعض إنه زعيم ملهم، ننسى أن ناصرًا كان مثقفًا من طراز رفيع، دائم القراءة يتابع بعناية الإسهامات الفكرية المحلية والإقليمية والعالمية، ولم يكن يتردد فى طلب شرح أو تفسيرات من المختصين إن لم يفهم ما قرأه. لا أريد تحويله إلى سوبرمان. عبد الناصر كوَّن نفسه بنفسه، علَّم نفسه بنفسه، ومن ثم كانت هناك ثغرات جسيمة فى بنيته المعرفية، وسوء فهم لبعض القضايا، وفى المقابل علينا ألا ننسى أن ناصرًا لم يتوقف يومًا عن التعلم، وعن الارتقاء بنفسه، وكثيرًا ما راجع نفسه، ولم يكن يرى فى الثقافة ترفًا.

ولم يكن وحده كذلك، قيل لى إن حسن إبراهيم كان يقضى عددًا كبيرًا من لياليه، بعد إنهاء يوم العمل، فى «مذاكرة» علوم الاقتصاد والإدارة، وكان صلاح نصر وثروت عكاشة وغيرهما من القراء الشرِهين.

جمع عبد الناصر وأهم مسئولى ومستشارى هذه الحقبة بين عزيمة قوية وإرادة صلبة فى التصدى للاستعمار ليحمل عصاه ويرحل، والحرص على البناء، وعدم مخاصمة العصر والحداثة. أعلم أننى سأُغضب الكثيرين، لكن تأملوا الفارق بين دلالات كلمة «التحرر الوطني» ودلالات كلمة «المقاومة»، لكى لا يُساء فهمي، أقول وأكرر إن المقاومة، بوصفها عملًا مسلّحًا أو سلميًّا يجسد رفضًا لأوضاع نعانى منها، مشروعة تمامًا، بل واجبة، وطبعًا لا تُعفيها هذه الشرعية من واجبات الحسابات الدقيقة بقدر الإمكان، والعمل على كسب أنصار، ومخاطبة الرأى العام العالمي، وحماية الشعب بقدر الإمكان، لكن التحرر الوطني؛ ليس فقط «لا» مدوّية ورفضًا لما يجب رفضه، هو أكثر من ذلك. فى دلالات «تحرر وطني» إنشاء واقع جديد… وفى دلالات «مقاومة» رفض وتصدٍّ لواقع بغيض.

أمر آخر… هو صعوبة تعديل المسار… تدخل نفقًا ثم لا تستطيع الخروج منه، تسلك مسلكًا وتتبنى سياساتٍ لتحقيق أهداف ما، وتنجح، ثم ترى ضرورة تغيير الوجهة، فمواصلة السير على النهج نفسه الذى سمح لك بتحقيق ما تصبو إليه تؤدى إلى ما لا تُحمَد عقباه، والشيء إن زاد عن حده ينقلب إلى ضده، وما أكثر التوجهات والخيارات التى أرادها ناصر وقتية ظرفية ثم عجز، رغم بصيرته وحسن نيته وإرادته الفولاذية وسلطاته الواسعة، أن يَعدل عنها؛ لكثرة من استفادوا منها ودافعوا عنها ولهم مصلحة فى إبقائها، رغم استنفادها أغراضها وتحولها إلى عائق.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:51 ص, الأحد, 11 أغسطس 24