خواطر مواطن مهموم 246

توفيق اكليمندوس

8:41 ص, الأحد, 9 يونيو 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

8:41 ص, الأحد, 9 يونيو 24

ذكريات حول 5 يونيو

دخلت السياسة حياتى فى السنة الدراسية 66/67. كنت فى الصف الثالث الابتدائي.

كيف دخلت؟ من خلال حصص اللغة العربية. نتعلم قصيدة «لماذا نحن يا أبتِ لماذا نحن أغراب»، تحدث معى الوالد من ناحية، ومُدرسة اللغة العربية، من ناحية أخرى، عن مأساة شعب طُرد من أرضه، وبات يعيش فى مخيمات. وبأنانية الطفل الذى يكتشف العالم سألت: هل يمكن لهؤلاء طردنا من البيت… وتباينت الردود.

وكان هناك فصل فى كتاب المقرر يروى استشهاد البطل السورى العربى جول جمال الذى قام بعملية انتحارية أغرقت السفينة الحربية الفرنسية «جان بار» التى اشتركت فى العدوان الثلاثي. وكنت مستاءً، وإن كنت لا أتذكر ما الذى ضايقني… ربما كانت فكرة قبول الموت مع قتل الغير… وربما كان اكتشاف أن فرنسا من الأعداء، كنا نتكلم الفرنسية فى البيت وكل كتب المكتبة أو أغلبها بالفرنسية.

استطراد… فى أول سنة لى بباريس… فى نوفمبر 1982… أصبحت، لبضعة أيام، أضحوكة الدفعة؛ لأننى تكلمت عن هذه البطولة، وسَخِر منى الطلبة الفرنسيون لأن «جان بار» لم تغرق قط، وهى موجودة… ثم طوى الكل الصفحة فجأة. على العموم، لم تكن السخرية لاذعة ولا سخيفة… بالعكس حثَّ هذا الفصل عددًا من الزملاء على مساعدتى وعلى الحوار معي.

كان أحد زملاء الدفعة ابن لواء بحرى كان من رفاق ديغول، ومن أبطال تحرير فرنسا، وكان أقلّهم سخريةً مني، وأكثرهم تفهمًا. والده توفى سنة 1973، لكن عمه كان موجودًا، هذا العم كان سكرتيرًا عامًّا برئاسة الجمهورية أيام شارل ديغول. هذا الزميل كان عميق الإيمان بالكاثوليكية، وفى الوقت نفسه يساريًّا، تخصص، فى بداية الأمر، فى الشأن الكولومبي، ثم ترك البحث العلمى لينخرط فى الحياة الثقافية… شاعرًا وممولًا وداعمًا للكثيرين. وإما هو أم طالب آخر قال لى إن السفينة أصيبت فعلًا، لكنها لم تغرق، وتم إصلاحها بسهولة.

نعود إلى 1967… كنت أمضى أوقات فراغى فى قراءة قاموس اللغة الفرنسية الموجود بمكتبة الوالد، أحاول أن أتعلم أسماء الدول وعواصمها ومدنها الكبرى وموقعها الجغرافى وعدد سكانها، وشكل عَلمِ كل منها، وأتذكر أننى كنت أبحث عن اسم مصر وعَلمِها ولا أجده، وفاتحت الوالد وضحك وقال لى إن هناك مَن غيّر اسمها لأسباب، وأنها الآن الجمهورية العربية المتحدة، وكنت أسأل ما معنى «متحدة»، ويضحك، وكانت هناك بقعة حبر ضخمة تمنع رؤية عَلمٍ ما، وصفحة مقطوعة، وشرح لى الوالد أن هذا عَلم الدولة العدوة الطاردة للفلسطينيين، وأن الصفحة المقطوعة هى صفحة عن تاريخها.

وفى الثلث الأخير لشهر مايو تكهرب الجو، وساد القلق فى العائلة، طلب منا الوالد عدم إضاءة البيت ليلًا، وتمّت تغطية الشبابيك بأقمشة سوداء، وبدأنا نسمع، طوال اليوم، أغانى وطنية.

وقامت مُدرسة اللغة العربية بشرح «الموقف». أتذكر جيدًا ما فهمته وهو قليل. الدولة الشريرة إياها تهددنا، وضمنت تأييد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، والموقف فى غاية الخطورة. صُدمت لأننى كنت فهمت من خلال الاستماع إلى مناقشات عائلية أن الولايات المتحدة أقوى دولة فى العالم، وأن هناك رئيسًا عملاقًا يقود فرنسا، وأتذكر أن تلميذًا قال… ولكن الاتحاد السوفييتى معنا وبقوة. وقال الولد إن أباه سفير… سفير؟ كلمة أخرى لم أفهمها. وشرحت لنا المُدرسة قوة الاتحاد السوفييتي… تنفست الصعداء، لسنا وحيدين.

وعدت إلى المنزل وقلت إننى أحب الاتحاد السوفييتي، وغضب الوالد وصاح… «كِملت، سيحوّلون ابنى إلى شيوعى قذر». ثم هدأ وقال لى أتحب المسيح… وأردف قائلًا إن الاتحاد السوفييتى أكبر عدو للسيد المسيح وللأنبياء… سألت: هل نحن الطرف الشرير، وقال الوالد: كلا… قضيتنا عادلة… قضية الفلسطينيين مقدسة… وسألت: وما أسباب تأييد أمريكا وفرنسا للطرف الشرير… أليسوا مسيحيين يحبون العدل؟ وغرقت فى الحيرة.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية