خواطر مواطن مهموم 245

توفيق اكليمندوس

7:35 ص, الأحد, 2 يونيو 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

7:35 ص, الأحد, 2 يونيو 24

عن مقولة مغلوطة

بدايةً، لكى لا يُساء فهمى أكرر أننى كنت ناصريًا فى شبابي، وهناك مبدأ ناصرى ما زال مسيطرا حتى اليوم على تفكيري، وهو المعاداة الكاملة المطلقة للاستعمار والمطامع والممارسات الاستعمارية، وأعرف الجروح والعقد النفسية والتأثير العميق الذى تركه الاستعمار فى وجدان من عاشوا تجربة الاحتلال وسيادة الأجنبى على مقدرة شعب أيا كان وعلى الشعوب المصرية والجزائرية والفلسطينية والكونغولية وشعوب أوروبا الشرقية والقوقاز – على سبيل المثال لا الحصر.

فى المقابل، على المؤرخ أن يشدد على اختلاف التجارب، لم يعانِ الشعب المصرى معاناة كمعاناة الجزائريين، لا يعنى هذا أن الاستعمار كان لطيفا هنا وقاسيا وحشيا هناك. الاستعمار بغيض فى كل الأحوال ومقاومته حق وواجب مقدسين فى كل الأحوال. ولكن مصر لم تعرف المذابح التى تعرضت لها شعوب أخرى.

هذه مقدمة توضيحية، ما دفعنى إلى الكتابة هو مقولة انتشرت فى المواقع الاجتماعية، “كلما زاد توحش الاستعمار اقتربت نهايته”، ينسبها البعض لعصمت سيف الدولة وآخرون لعبد الوهاب المسيري. وموقفى من الإثنين لا يهم، أقول إننى أعرف أعمال أحدهم ولا أعرف عن الثانى إلا أقل القليل.

أولًا… هل يزعم أصحاب هذه المقولة أنها من القوانين الحاكمة لحركة التاريخ… أم هى مجرد كلام خطابى بلاغى لحشد الهمم؟ إن كانت قانونا فى نظرهم… أقول إننى أعرف عددا كبيرا من الاستثناءات، بعضها معاصر. هناك شعوب فى آسيا وأفريقيا والقارتين الأمريكيتين وأوروبا خسرت معركتها.. لم تخسرها لأن المستعمر كان حنونا لطيفا مؤدبا، بل خسرتها لأنه كان متوحشا لا يرحم ولا يخشى ارتكاب جرائم شنعاء.

ولا يوجد ما يوحى أن الشعوب التى عانت وتعانى من توحش المعتدى تستطيع كلها مواصلة الكفاح، هذه واحدة، والشعوب التى قدرت عليه وانتصرت فى النهاية احتاجت لفترة طويلة لتضميد جراحها واسترداد قواها والتعلم من دروس الإخفاقات وبدء جولة جديدة من النضال.

أولا للأسف لا يمكن أن نقول إن كل من يتعرض لمبالغة فى التوحش سينتصر فى النهاية، وليس حقيقيا أن التوحش البالغ يعجل من هزيمة المعتدي. كنت أحب أن تكون الأمور كذلك. ولكن الواقع أمر آخر.

ما المقصود بالجملة إياها؟ ربما يرى قائلها أن التوحش يولد توحشا مضادا يرفع كلفة الاحتلال والاستعمار ويبث اليأس فى صفوف المعتدي، ويدفعه إلى قبول الهزيمة. وفعلا حدث هذا فى أحوال عديدة، ولكن التوحش المضاد لم يكن ممكنا أصلا فى عدد من الأحوال، وفشل فى غيرها.

تفسير آخر للمقولة… ازدياد التوحش الاستعمارى سببه أن هذا المستعمر يعلم أن سياساته وعدوانه فاشلين، أو يخالفون قوانين وحركة التاريخ، وهى محاولة يائسة ميؤوس منها لقلب النتيجة النهائية رغم حتميتها، محاولة لا تنجح إلا فى إلحاق المزيد من الدمار على المعتدى عليه، ومزيد من العار على المعتدي، وقد تتسبب فى تعجيل الانهيار وهزيمة الغازي.

تنويعة أخرى… الطرف المستعمر موقفه ضعيف، وزيادة توحشه هى إنكار لضعفه، ومحاولة أخيرة لحسم المعركة لصالحه، ورمى لكل قواه فى معركة يأمل أن تكون فاصلة، ولكنه يهزم فيها، أو على الأقل يعجز عن الانتصار فيها نصرا حاسما.

الرسالة الضمنية للمقولة هي… الصراع صراع إرادات، قد تكون أضعف، ولكن عزيمتك الجبارة وكونك صاحب حق يضمنان النصر النهائي، إن صبرت وتحملت وزدت إصرارا على مواصلة الكفاح.

هل هذا لا يحدث أبدا؟ طبعا يحدث… لأسباب تختلف من تجربة تاريخية لأخرى، تتلخص فى القدرة على الاستمرار وربما على الحصول على تفوق… وفى بروز قناعة لدى المعتدى الجبار أن الكلفة المادية والمعنوية باتت تتجاوز بكثير المكاسب المادية والمعنوية، وربما فى تدخل طرف ثالث أقوى من المعتدي. أو مزيج من كل هذا.

هل هذا يحدث حتما؟ طبعا لا…قد يكون فارق الإمكانيات حاسما، لا تكفى البطولات على عظمتها للتقليل منه.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية