خواطر مواطن مهموم 229

توفيق اكليمندوس

11:42 ص, الأحد, 11 فبراير 24

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

11:42 ص, الأحد, 11 فبراير 24

الأزمة الأوروبية وفقًا لأحد خبرائها

أحاول جاهدًا متابعة التحليلات الإستراتيجية الغربية، فهى متنوعة وتنتمى إلى مدارس فكرية مختلفة بل متعارضة، وفى اختلافها رحمة وعبرة، وبصفة عامة، وعلى الرغم من وجود ثغرات معرفية قوية وتزداد جسامة فإنهم أدقّ فهمًا للعالم من غيرهم، فنُخبهم أكثر النخب اختلاطًا بغيرها، وأهم الجامعات عندهم، ولهم قاعدة كبيرة من المتخصصين والخبراء، وتاريخ من التواصل مع الغير بين الصدام والغزو، والتعاون والدعم يكون أحيانًا مُعرقلًا للفهم، ولكنه فى الغالب مفيد. وسواء وُفّقوا أم لا فهم على الأقل يحاولون بجدية فهم مُدركات ومحددات وخطط الآخرين.

أمضي، هذه الأيام، وقتًا ممتعًا مع كتب الدكتور برونو ترتريه، نائب مدير المؤسسة (الفرنسية) للبحث الإستراتيجي، وهو أصلًا خبير إستراتيجية نووية، مقرَّب إلى حدّ ما من الأمريكيين ومن الإسرائيليين، ولا يعنى هذا أنه لا ينتقدهم أحيانًا أو أنه غير وطني، يصنّفه أعداؤه على أنه من المحافظين الجدد، وهو يستاء من هذا التصنيف قائلًا إنه رافض لـ%90 من مقولات الفرق المنخرطة تحت هذا اللواء. أتصوّر أنه مُحق فى هذا الرفض، وأن القاسم المشترك الوحيد بينه وبينهم هو أنه قوى جدًّا ومقنع عندما يتحدث عن صراعات ومُدركات الكبار، لكنه أقل اهتمامًا بشئون وقضايا العالم الثالث، وأضيف أن فى تحليلاته تفاؤلًا نسبيًّا لا أشاركه فيه، لكنه يُداوى ميلى القوى إلى التشاؤم، وطبعًا لا يقلل هذا التفاؤل من مقامه محللًا عميقًا للواقع.

ما يثير إعجابى فى كتبه هو قدرته على مد القارئ بكمّ من التفاصيل الفنية الدقيقة بأسلوب سلس، ثم إجمال كلامه بتشبيه يجمع بين البلاغة والدقة، واهتمامه بتصورات ومدركات الفُرقاء وطبيعة أنظمتهم السياسية والاقتصادية وخططهم المستقبلية، وشرحه للخلفيات التاريخية فى إيجاز لا يخلو من الدقة. لا أستطيع أن أقيّم كلامه عن الصين، ولكننى متأكد من أن وصفه لروسيا ولأوروبا وللولايات المتحدة صائب ودقيق.

فى هذا المقال وما يليه لا أقوم بعرض مرتب و«مخلص» لما قاله فى كتاب صدَرَ السنة الماضية، بل أُفضّل جذب انتباه القارئ إلى بعض النقاط والتعليق عليها، إن كان لديّ ما أقوله.

فى منتصف الكتاب يقول الخبير إن مصطلح «الغرب» يحتاج إلى تحديد، وهو مُحق فى هذا، إذ لم يعد مفهومًا جغرافيًّا ولا ثقافيًّا، فالمكون الآسيوى فيه يُعتدّ به، ولا يمكن القول إنه يضم كل الأنظمة الديمقراطية فى العالم، هذا غير حقيقي، ويقول الكاتب إنه لم يعد ممكنًا وصف العلاقات بين دول شمال الأطلسى بأنها الركن الأساسى للغرب، فهو مكون من عدة أقطاب، مجموعة السبع يضاف إليها كوريا الجنوبية، الاتحاد الأوروبى والدول القريبة منه والتى تشبه أعضاءه، «العالم الإنجليزي» الذى يضم الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا.

ويقول الكاتب إن النموذج الأوروبى – الألمانى أساسًا ولكننا نعلم وزن ألمانيا فى القارة – قام على أركان هي: الاعتماد على روسيا كمصدر لا ينضب للطاقة، وعلى الولايات المتحدة كضامن ومورِّد لأمن مطلق لن يتخلف أبدًا، وعلى الصين كسوق كبير ستكون دائمًا مفتوحة وفى حاجة إلى السلع الأوروبية، وأضيف من ناحيتى مداعبًا «وعلى أوروبا تلقين الجميع دروسًا فى الأخلاق وسيادة القانون».

وكما نعلم، انهار الركن الأول، والركنان الآخران معرّضان للخطر، فالرئيس السابق ترامب يريد أن يتخلص من الأعباء الأوروبية، وقد يعود إلى البيت الأبيض، وأمام هذا الاحتمال هناك ثلاثة مواقف أوروبية، الفرنسيون يقولون «الولايات المتحدة سيتركون القارة لمصيرها إن آجلًا أم عاجلًا»، والألمان يقولون «الولايات المتحدة لن يتركوا القارة أبدًا» مستندين إلى ضخامة المصالح الاقتصادية والمالية الأمريكية فى أوروبا، والبولنديون يقولون «الحل لضمان بقاء الأمريكيين هو منحهم عددًا كبيرًا من القواعد العسكرية» المفيدة كقواعد انطلاق نحو أفريقيا وآسيا.

والصين فى العقد الأخير انتهجت سياسة تصعب الوصول إلى سوقها أو البقاء فيها.

(يتبع)

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية