أهلًا وسهلًا فى معملى
طبيعة عمل الخبير فى الشئون السياسية وفى العلاقات الدولية فاقمت من عيبٍ رئيس فى شخصى المتواضع جاهدتُ لتحويله إلى ميزة – البحث فى عدة موضوعات فى آن واحد والعجز عن تناول الملفات بالترتيب.
بدأت، هذا الأسبوع، باحثًا فى القضايا الاجتماعية التى تُفاقم من الاستقطاب فى المجتمعات الأوروبية، كنت متابعًا لإضرابات واحتجاجات ألمانيا، ثم فوجئت بتكليف بالاشتراك فى حلقة تليفزيونية تتناول الإضرابات فى المملكة المتحدة، ووجدت نفسى غارقًا فى كتب فرنسية عن أحوال المملكة وفى صحف ومواقع اجتماعية محسوبة على اليسار البريطاني، بعضها رفيع المستوى. ووجدت فى البلدين ما يُوجب مقارنة بمشكلات فرنسا، وكان هذا التوجه قبل اندلاع احتجاجات الفلاحين فى فرنسا، ولم أخصص بعدُ وقتًا لدراسة هذه الاحتجاجات، واكتفيتُ بأحاديث عبر تطبيق واتساب مع جامعى ومع كادر سابق فى الدولة العميقة – الاثنان من أقرب الناس إلى قلبي.
خطر على بالى وأنا أُجرى المقارنات أنه من الواجب قراءة كتب تقوم بتأصيل للعولمة؛ لأعرف دورها فى إيجاد أو فى تعميق هذه الانقسامات بالمجتمعات الأوروبية، وتذكرتُ فجأة أننى اشتريت منذ عقود كتابًا لصحفى أمريكى عنوانه «عالم واحد سواء كان جاهزًا أم لا».
قبل أن أبدأ الكتاب، حاولت جمع معلومات عن الصحفي؛ لأعرف إن كان من الأكْفاء أم من المُهرّجين، وفوجئت بأنه صاحب واحدة من أشهر مقالات الصحافة الأمريكية، «تربية ديفيد ستوكمان»؛ وهى مقالة طويلة نُشرت سنة 81 فى مجلة «زى أطلنتك»، وأحدثت ضجة كبيرة لأنها اعتمدت على سلسلة حوارات مع كادر مهم من الدولة لم يتحفظ فى الحديث، وأعرب عن شكوكه فى النظرية الاقتصادية التى تحكم وتضبط المقاربة التى يُنفذها وفى كفاءة أداء الدولة المركزية، وتكلّم عن تأثير جماعات الضغط، هى دراسة تتناول معركة كادر شاب فى إدارة الرئيس ريجان لإعادة هيكلة الميزانية، لخفض عجزها عن طريق إلغاء أو تقليل كل الإعانات وأوجه الدعم… سواء ساعدت فئات اجتماعية أم أنشطة صناعية وزراعية، الشاب كان يحاول تحويل وعد انتخابى شبه مستحيل لريجان… مفاده القضاء على العجز، مع خفض الضرائب، وتوفير زيادة كبيرة لميزانية وزارة الدفاع، واستغرقت قراءة هذا التحقيق الممتع يومًا كاملًا، وتعلمتُ أمورًا كثيرة بشأن العمل السياسى فى واشنطن، وأزمة النُّخب الغربية، وحصاد وأزمة دولة الرفاه، والتبِعات غير المتوقعة لضبط وتقييد أدائها، أمور لا أعرف كيفية استغلالها فى المستقبل.
وأصابتنى الحيرة، قراءة مقال واحد استغرقت يومًا بالكامل، هل أملك وقت قراءة كتاب عددُ صفحاته يفوق الخمسمائة؟ وعدتُ نفسى بأننى سأعثر على هذا الوقت فى الشهر المقبل، لكننى قدّرتُ أن الأحرى أن أقرأ كتابات عن المشهد الدولى الحالي؛ أملًا فى تناول فصل من فصولها حصادَ العولمة، وفى اليوم نفسه شاءت الصُّدَف أن صديقًا فرنسيًّا أرسل لى مقالًا هو تحليل إستراتيجى ماركسى لفصيل من فصائل أقصى اليسار الفرنسي، هذا التحليل يقول إن روسيا ستكسب الحرب فى أوكرانيا، وأن الرئيس بوتين أثبت أنه من الممكن التمرد والخروج على المنظومة الرأسمالية الليبرالية الحاكمة للتجارة العالمية، دون أن يؤدى هذا إلى «انتحار»، وأن الحل هو محاكاة النموذج الصينى لرأسمالية دولة شديدة الفعالية.
المقال كان رصينًا مثيرًا للتفكير، كتبتُ للصديق أشكره وأقول له رأيى الأوليّ، لا يمكن استبعاد انتصار روسيا فى الحرب، فموقفها يتحسن، ووضع أوكرانيا يسوء، لكن هذا النصر إن حدث سيكون بفضل الأخطاء الأوكرانية والغربية، لا بفضل سداد قرارات موسكو، وسيكون بطعم الهزيمة؛ لأن كلفته جاءت مرتفعة، مئات الآلاف من القتلى والجرحى، إفقار الشعب، توسيع الناتو، تراجع نفوذ روسيا فى القوقاز، إجبارها على دخولها شراكة غير متكافئة مع الصين التى لن تتردد فى استغلال ورطتها لفرض شروطها.
وبعدها شرعتُ فى قراءة آخِر كتاب لبرونو ترتريه، وللحديث بقية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية