خواطر مواطن مهموم 215

توفيق اكليمندوس

8:56 ص, الأحد, 5 نوفمبر 23

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

8:56 ص, الأحد, 5 نوفمبر 23

عن أسباب البربرية والتوحش

بين الحين والآخر أعود إلى قراءة كتب عن الحربين العالميتين بصفة عامة، وعن النازية بصفة خاصة التى تمثل لغزًا مُرعبًا… كيف أصبح هذا الشر ممكنًا، كيف انزلق شعب متعلم إلى مثل هذا التوحش، كيف ارتكب ملايين من الألمان مثل هذه الجرائم النكراء؛ من إبادة ومجازر جماعية، فالأرقام مرعبة… مات أكثر من 35 مليون أوروبى فى الحرب، تم تدمير مدن بالكامل، هناك دول فقدت ثلاثة أرباع مبانيها أو أكثر…

قد تفسر الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى تصاعد شعبية الحزب النازى ونجاحه فى جذب فئات عريضة، وقد يفسر غباء الفاعلين الآخرين وحساباتهم الخاطئة سببًا إضافيًّا مكّن هتلر من الوصول إلى الحكم، ويقول البعض إن الرجل كان يمتلك جاذبية خاصة، وينكر آخرون هذا، ولكن كل هذا أمر، وارتكاب الجرائم بالوحشية التى شاهدها كل المعاصرين أمر آخر، لا يفسر لا بالجهل لا بالمعاناة الاجتماعية ولا بالضائقة الاقتصادية. بالعكس، الشعب الألمانى كان شعبًا متعلمًا وعندما بدأت الحرب العالمية كانت الأحوال الاقتصادية قد تحسنت بوضوح. ولم يتدهور مستوى المعيشة فى ألمانيا قبل النصف الثانى من سنة 43.

ونستطيع أن نحدد… بين 8 و16 أغسطس 1941، وأثناء الغزو الألمانى للاتحاد السوفييتى بدأ جنود لم يسبق لهم ارتكاب أى جريمة عمليات قتل آلاف من الأطفال اليهود، وانتقلوا إلى هذه المرحلة من العنف والوحشية بسرعة وسلاسة، لم يكن هناك تدرج. وأغلب القتلة كانوا “ناس عاديين”، كما وصفهم عنوان كتاب شهير لكريستوفر براوننج.

يقول الدكتور كريستيان إنجراو إن المؤرخين اتجهوا إلى دراسة العوامل الثقافية، وأن مجموعات عمل تشكلت وتضم متخصصين من دول مختلفة، بعضهم درس التاريخ الاجتماعى والثقافى للحرب العالمية الثانية، وآخرون تناولوا الحرب العالمية الأولى انطلاقًا من المقاربة نفسها، واشترك معهم مؤرخو الحروب الدينية التى اندلعت فى أوروبا فى القرن السادس عشر، وكان أيضًا معهم مَن درس حرب البوسنة فى التسعينيات من القرن الماضي، وما حدث فى رواندا بعدها بقليل، وكل هذه الصراعات شاهدت تورط الآلاف من الناس العاديين فى ارتكاب فظائع يقف أمامها المرء مذهولًا مصدومًا.

أتابع منذ التسعينيات أعمال هؤلاء، وكبيرهم ستيفان أودوان-روزو الذى اقتبس من العملاق الراحل جورج موس مفهوم ثقافة الحرب، الجامعة لخطابات وممارسات تؤدى إلى قلب الجموع إلى وحوش. الطريف أننى لم أعلم أن هؤلاء المؤرخين يعملون معًا إلا عندما بدأتُ الاستعداد لكتابة هذا المقال.

حاليًّا أقرأ أعمال إنجراو عن النازية، ويقول إنها منظومة جمعت بين خطابات وممارسات جماعية اتسمت بالعنف البالغ، وأن مجموعة من التصورات والمشاعر والمخاوف الجماعية الأخروية السلبية المتجذرة دفعت الجماهير إلى تصديق هذا الخطاب والإيمان بمشروعه المجنون – إقامة إمبراطورية ألمانية تستعبد الأجناس الأخرى وتعيش ألف عام – والانخراط النشِط فى ممارسة الفظائع.

أثناء الحرب العالمية الأولى ساد خطاب يرمى إلى الحشد يقول إن هناك تحالفًا عالميًّا يحاصر ألمانيا ويريد فناء وإبادة الشعب الألمانى ودولته، وأن الحرب، من ثم، صراع وجود وليس صراع حدود. وكل المؤشرات تدل على أن الشعب الألمانى صدَّق هذا الكلام الذى ولّد خوفًا، بل رعبًا عميقًا غير منطقي، وظلّ يصدّقه بعد الهزيمة، وأسهمت عدة عوامل فى ترسيخه، منها استسلام ألمانيا قبل أن يدخل جندى واحد أرضها، مما أعطى مصداقية لرواية تافهة قائمة على المؤامرة، ومنها القسوة البالغة لشروط السلام، ومنها خسارة ألمانيا أراضي، ومنها وحشية وعدوانية الثورة والنظام الشيوعيين وسعى الثوار السوفييت إلى تصدير ثورتهم التى اعتبرها الكثيرون هدّامة ومُعادية للدين ومنتهكة لكل الحُرمات… ومنها تبِعات الأزمة الاقتصادية العالمية، كل هذا أوجد قناعة عميقة بأن ألمانيا تخوض «صراع وجود» حقيقةً لا مجازًا.

وكانت هناك رغبة عميقة دفينة للثأر بلا رحمة من بولندا وفرنسا، كانت الحرب ضد الدولتين عملية انتقامية…

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية

تدشن مقرًّا رئيسيًّا فى المملكة