خواطر مواطن مهموم 204

توفيق اكليمندوس

10:26 ص, الأحد, 20 أغسطس 23

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:26 ص, الأحد, 20 أغسطس 23

النظام والصراع الدوليان وسياستنا الخارجية

عندما أفكر فى الصراع على الهيمنة على النظام العالمي، أجد نفسى أسير ذاكرتى التاريخية، ومجاهدة النفس ضرورية فى هذا الصدد، من المعروف مثلًا أن قادة فرنسا فى بدايات الحرب العالمية الثانية ظلّوا أسرى ذاكرة الحرب العالمية الأولى ودروسها المستفادة، ولم ينتبهوا للمستجدّات والفوارق- أهمها تأثير الدبابات وسلاح الطيران- وتسبَّب هذا فى أكبر هزيمة فى تاريخ فرنسا، رغم قوة جيشها آنذاك.

ولكن هذا لا يعنى تجاهل التاريخ والدروس المستفادة، بل هذا يعنى ضرورة إدراك حدود القياس وفوائده ومخاطره. ما ميّز الحرب الباردة أنها انتهت فجأة- أشدِّد على كلمة فجأة- بانهيار أحد اللاعبين، وهنا تبدأ المشكلات؛ هل انهيار أحد الأنظمة المتصارعة أو هزيمته هزيمة مُنكرة أمر حتمى نظرًا لطبيعة هذا النظام المهزوم، أم يعود إلى أخطاء جسيمة لقيادته كان يمكن تجنب الوقوع فيها؟ ولو لم يحدث هذا الانهيار هل كان يمكن للصراع أن يدوم إلى وقتنا هذا؟ وهل انتصر المنتصر لأن نظامه السياسى أفضل، واقتصاده أقوى، ونُخبه أكثر كفاءة، ولأنه تفوَّق على غيره فى العلم والتكنولوجيا؟ أم انتصر لأن موازين القوى العسكرية والاقتصادية والسياسية كانت منذ البداية فى صالحه بوضوح؟ ما دور الحظ فى هذه النتيجة؟

استقرّ فى وجدان النخب الروسية والصينية أن أخطاء القيادات السوفيتية المتعاقبة لعبت دورًا بالغ الأهمية فى الانهيار، مع اختلافات فى تحديدها، يقرُّون طبعًا بأن النظام كان يواجه مشكلات وتحديات كبيرة، ولكنهم يرون أن القيادات تعاملت معها بسذاجة وغباء.

وفى الغرب، هناك ميل قوى للرأى العام إلى تفسير ما حدث من انهيار على أنه المصير الطبيعى لأنظمة شمولية وسلطوية ولأسلوب تعاملها مع شعوبها، فهناك قناعة بأن هذه الأنظمة لا يمكن لها البقاء إلا لو قبلت بتراجع مكانتها الدولية العائد إلى كبْتها الحريات الضرورية لتحريك المجتمع وتطويره. وهناك بعض الفئات التى لا تتبنى رأى الجمهور، أقصى اليسار من جهة، وأعداء الديمقراطية التمثيلية من جهة أخرى، وأخيرًا وليس آخرًا أنصار المدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية، الذين يميلون إلى التقليل النسبى من أهمية طبيعة النظام السياسى للدولة، ومن أهمية الثقافة السياسية ومدركات الفاعلين، وإلى التركيز على موازين القوة، ولا سيما العسكرية، وميزة هذه المدرسة أنها لم تنس يومًا أن الصراع سمة شِبه أزلية، ولا تصدِّق الكلام الفارغ عن المثالية والأخلاق، وأنها لا تتصور أن الحوار والتعاون والضغط الاقتصادى قادرة على حل كل المشكلات، ونقطة ضعفها الواضحة هى إهمالها النسبى لدور الثقافات والأيديولوجيات والمُدركات وآليات الأنظمة، وميل بعض أقطابها إلى استبعاد كامل للاعتبارات الأخلاقية والقانونية، وهو استبعاد لا يقلّ سذاجة عن نقيضه.

لا أخفى على القارئ ميلى العاطفى والفطرى للرواية السائدة فى الغرب، ورفضى الفطرى والعاطفى للروايات الروسية والصينية، ولكننى أقاوم هذا الميل الفطري، وله فى وجدانى أعداء… منهم ميلى إلى التشكك في، بل إلى رفض أية رواية تدّعى وجود حتمية ما، حتى لو بشّرت بحتمية انتصار معسكر الخير- على فرض وجوده- على معسكر الشر، أو العكس، ومنهم معلوماتى عن مجرى التاريخ ومصير الأنظمة السياسية والمجتمعات وآليات الصراع الدولي، وعن دور القادة؛ العظماء منهم والمغفلين، ودور النُّخب والاكتشافات العلمية ونُظم الإنتاج، وأخيرًا وليس آخرًا الحظ.

وقبل أن نخوض فى قضيتنا فى مقالات مقبلة، ألفت نظر القارئ إلى تأثير الذاكرة والخبرة التاريخية على التحليلات الحالية، وهو تأثير لا يقل عن تأثير النرجسية والجهل. وألفت نظره أيضًا إلى حتمية الأخير فى هذه الأمور. لا يستطيع أى فرد الإلمام بكل جوانب ومتغيرات المشهد، ولا فهْم كل الفاعلين، والإقرار بهذا لا يعنى أن كل جهل مغتفَر.

هذا الجهل الحتمى يعنى أن العمل الجماعى ضروري، ولكن هذا العمل الجماعى قد لا يحل المشكلة.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية