خواطر مواطن مهموم 200

توفيق اكليمندوس

9:06 ص, الأثنين, 24 يوليو 23

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:06 ص, الأثنين, 24 يوليو 23

تأملات فى مسارنا التاريخى والثقافى

مشروعى المؤجل هو إعادة النظر فى الخمسينيات من القرن الماضي، وهو العقد الذى تخلصنا فيه من الاحتلال البريطاني، وتحددت فيه الخطوط العريضة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وتشكلت فيه أركان عقيدة الدولة والجماعات الثقافية، فيما يخص السياسة الخارجية، وهى عقيدة ما زالت تؤطر عمل الدولة فى هذا المجال، وتشكل مرجعية يسترشد بها الجميع فى تقييم الأداء، كونى أعتقد أنها تجمع بين مبادئ لا يمكن التخلى عنها، وأخرى تجب مراجعتها لا يهم الآن.

وهو عقد بدأ فيه التعامل الجدى مع التحدى الإسرائيلي، وعندما أقول “جدي” لا أقصد بالضرورة النشيط، أو الفعال، ولا يمكن التقليل من تأثير هذا التحدى على هويتنا وعلى علاقتنا بالحداثة وعلى ثقافتنا وعلى إدارتنا للتعددية المصرية، وعلى قراءتنا للواقع الدولى وعلى عمليات بناء دولة يوليو، وعلى التوازنات بين مكونات نخبتها وأجهزتها وأنواع خبراتها.

وهذا الكلام يحتاج إلى تحديد، لا أقصد طبعًا أن تجربة الاحتلال لم تترك جروحًا عميقة فى الذاكرة الجمعية، وأن آثاره زالت بمجرد انسحاب القوات البريطانية، ما أقصده أن التحدى الإسرائيلى قلل من عدد الخيارات الممكنة فى التعامل مع العالم الخارجي، ولا يعنى هذا أن الخيار أو مجموعة السياسات التى تبناها عبد الناصر كانت الوحيدة الممكنة.

ومن ناحية أخرى لا يناقض التركيز على الخمسينيات رأيى الآخر أن مصر الحالية ليست بنت عبد الناصر والمرحلة الناصرية، بل بنت السادات والمرحلة الساداتية، ولكن علاقة السادات والمرحلة الساداتية بالمرحلة الناصرية شديدة التعقيد، لا يمكن اختزالها فى كلمة الردة، نعم كانت ردة ولكنها كانت أيضًا انتصارًا مكونًا من مكونات نخب يوليو على المكونات الأخرى، وهو انتصار ليس وليد الصدفة ولا ينسب فقط إلى مهارات السادات ولم يكن فى الوقت نفسه حتميًا. ومن المفارقات أن هذا المكون كان أقلهم إيمانًا بمشروع عبد الناصر – على الأقل كان معارضًا لأركان مهمة من هذا المشروع لأسباب بعضها وجيه وبعضها ليس كذلك. وكان لهذا المكون قواعد ومهارات فى التحالف مع غيره، وإضافة إلى ذلك كان للسادات مهارات استثنائية فيما يتعلق بفهم موازين القوة الدولية، وربما كان يفهمها فهمًا أعمق من فهم النخب الأمريكية، وهى مهارات وظفها لتحرير الأرض ولخدمة مشروع سياسى ثقافى حامل لتناقضات لا يمكن تجاوزها على أحسن الفروض، ورأيى فيه سلبى للغاية.

ولكن هذا المشروع وليد طبيعى للمرحلة الناصرية، وعندما أقول طبيعيًا لا أقصد حتميًا. نعود إلى الوراء قليلًا، أربعينيات القرن الماضى هى أزهى عصور الثقافة المصرية، وشاهدت بث أفكار وصراع مشروعات سياسية ثقافية ومشاركة سياسية أكبر لفئات مختلفة للمجتمع المصري، ولكن الأربعينيات هى أيضًا عصر فوضى سياسية وأمنية مرعبة، مهددة للكيان المصري. موقف الطبقات الوسطى المصرية لا يمكن تحديده بطريقة قاطعة، ولكننى أعتقد أنه يمكن وصفه تقريبًا كالآتي، قطيعة مع النظام الملكى ساهم فى إيجادها أداء الملك فاروق الكارثي، الميل إلى الاعتراف بوجاهة الأسئلة التى تطرحها المشروعات السياسية والثقافية المتناحرة، وإلى رفض أو على الأقل التوجس من الإجابات، ومن السياسات التى تقترحها وتتبناها هذه المشروعات، وارتفاع كبير وملحوظ فى نسبة الذاهبين إلى استحالة التقدم، فى ظل النظام الملكي، وإلى ضرورة إيجاد صيغة توافقية بين التيارات المختلفة لم يعد الوفد قادرًا على التوصل إليها، صيغة توافقية تعيد النظام، وتتعامل مع الاحتلال ومع مشكلات الفقر والجهل والمرض ومع معضلات التحديث بجدية. لم يكن انتصار المنادين بضرورة إيجاد هذه الصيغة حتميًا ويعود قطعًا إلى بروز شخصية استثنائية بكل المقاييس، جمال عبد الناصر.

صدام النظام الوليد مع جماعة الإخوان وتوجهات ناصر التقدمية أنسانا أن تمثيل المكون الإسلامى المحافظ فى النخبة الجديدة كان قويًا للغاية، والمفارقة أن التقارب مع الاتحاد السوفييتى خدمه.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية