من انخرط فى مظاهرات والتى اندلعت فى النصف الثانى من خريف 2018 فى فرنسا؟
شهدت تلك المظاهرات مرحلتين أو طورين٬ فى أول شهرين كانت الأغلبية من أبناء الشرائح الدنيا للطبقات الوسطى القاطنة للمحافظات٬ وكان التمثيل الباريسى ضعيف نسبيا٬ وهذا يفسر الغل الذى غلب فى الاعتداء على معالم ومحالّ العاصمة٬ رمز فرنسا الأخرى المنخرطة فى العولمة المتشربة بالانفتاح. حقا لقد تصرف بعض المتظاهرين القادمين من المحافظات تصرفات الغزاة وهم فى باريس… هؤلاء القادمون من أعماق المحافظات لم يتورعوا عن الاعتداء على رموز الوطنية الفرنسية مثل قوس النصر…
وعندما تقدم ماكرون بتنازلات فى بداية الثلث الثانى من ديسمبر 2018 عاد معظمهم إلى البيت٬ وانخفض عدد المشاركين فى أعمال الاحتجاج انخفاضاً مذهلاً٬ وتصدر نشطاء أقصى اليمين واليسار المشهد٬ واستمر لجوءهم إلى العنف… ولجأت الشرطة إلى عنف مضاد.
الإضرابات والاحتجاجات التى بدأت الشهر الماضى وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا تختلف كلية٬ الفاعلون هم أبناء القطاع العام٬ النقابات تنظم وتشرف على تنظيم الفعاليات وعلى المفاوضات، فى حين أنها كانت غائبة تماما عن مشهد السترات الصفراء٬ السترات الصفراء سنة 2018 احتجت على قرار برفع أسعار الوقود صدر فعلا وكان ظالما٬ اليوم الاحتجاجات بدأت قبل أن يتعرف أحد على محتوى القانون موضوع الخلاف وهو قانون يعيد تنظيم المعاشات٬ أى أن تلك الاحتجاجات وقائية٬ وأخيرا وليس آخراً باريس والباريسيون أكثر مَن يعاني… لا نريد أن نقلل ولا أن نعظم من الفروق فالغضب والاستعداد للتصعيد واحد.
بالنسبة لماكرون حصاد موجات الاحتجاج، به المر، وبه الحلو٬ الخوف من عنف الفقراء ومن الفوضى سمح له بالاحتفاظ بقاعدته (نتائج الانتخابات الأوروبية كانت معقولة بالنسبة له) مع تغيير مهم… فى كتلته الانتخابية ازدادت أهمية من كانوا ينتمون لليمين وتراجعت أهمية من هو آت من صفوف اليسار. أقصد أن ما حدث جلب إليه ناخبين كانوا يصوتون قبل ذلك لليمين وقرروا دعم إصلاحاته والتصويت “ضد الفوضى”٬ وفى المقابل خسر أصوات ناخبين صوتوا لليسار سنة 2012، وله سنة 2017 وفضلوا التصويت للخضر فى الانتخابات الماضية. وقد ينجح ماكرون فى استعادة أصواتهم، وقد يفشل.
والمر كثير… أداؤه، ولا سيما تأخره فى التعامل مع أزمة السترات الصفراء، سواء بالحوار أو الاستجابة ترك انطباعا بأنه لا يفهم إلا لغة القوة٬ وأن السبيل الوحيد لجذب انتباهه هو ممارسة العنف. وهذا تطور سلبى بكل المقاييس٬ واكتشف ماكرون أن أغلبية واضحة من الفرنسيين تكرهه كره التحريم. المعارضون لسياسات شيراك وهولاند كانوا يحترمون الرئيس، أو على الأقل لا يكرهونه. ساركوزى وماكرون مكروهان. واكتشف أن الموضوع ليس فقط كراهية٬ ولكن هناك أزمة ثقة عميقة بينه وبين الفرنسيين٬ حتى الكثيرون ممن يحترمون ذكاءه الحاد وثقافته الرفيعة وقدراته على العمل وإلمامه بالملفات وحفظه لكل أنواع الأرقام والإحصائيات وإدارته للحوار الوطنى فى النصف الأول من السنة الماضية، لا يثقون فيه٬ وتحديداً يعتقدون أنه يعمل للأغنياء فقط، أو على الأقل لا يعرف عالم الفقراء ولا يحس بمعاناتهم٬ وهناك من ينسب لأفعاله وضرباته انهيار اليمين واليسار التقليديين ويرى أنه بنى معادلة بالغة الخطورة وهى إما هو أم قوة متطرفة…
لا نقول إن كل الاتهامات مبررة أو فى محلها٬ وأنا متأكد أن بعضها ظالم جدا٬ ولكن تصورات الفاعلين لها أهمية، ولا سيما إن كانت خاطئة.
وهكذا وصلنا إلى وضع فريد… إضراب قاس احتجاجا على مشروع لا يعلم أحد عنه شيئاً. ويواجه ماكرون معضلة.. مع أى نقابة يتحاور ومع أى نقابة يقدم تنازلات.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية