خواطر مواطن مهموم «2»

خواطر مواطن مهموم «2»
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:41 ص, الأحد, 1 سبتمبر 19

فى المقالة السابقة حاولت أن أقول إن الجمع بين الزيادة السكانية وضيق المساحة القابلة للزرع وشح الموارد ووجوب إعطاء الأولوية للخروج من مثلث الفقر والمرض والجهل، معناه شىء واحد، هو أننا لن نحقق حلم الاكتفاء الذاتى والاستقلال الاقتصادي، وسنكون مضطرين إلى الاستيراد والتصدير، وسيتطلب هذا إعادة رسم خريطة البنية الصناعية المصرية وتنمية روح المبادرة والمجازفة، ولن نملك قبل عقود القدرة على تحقيق استقلال علمى وتكنولوجى، لأن الدولة لن تملك قبل فترة الأموال التى تسمح بتمويل نهضة علمية وإيجاد مقوماتها.

ولن تملك قبل فترة وسائل تسمح بمنع هجرة العقول، فألمع الشباب المصرى يميل إلى الذهاب حيث الرواتب والاعتراف والتسهيلات والبيئة الفكرية الملائمة.

ومعنى هذا أننا سنظل تابعين من الناحية العلمية والتكنولوجية، ولهذا الوضع آثار ملموسة على أمننا القومي، وعلينا المجاهدة لكيلا تتحول التبعية التكنولوجية إلى تبعية سياسية، أو على الأقل لتكون تلك التبعية غير مؤثرة على قرارنا تأثيراً ضارا.

وعلينا التفكير فى السؤال التالى، هل فى إمكاننا اختيار من نتبعه؟ الرد البديهى هو ألا نرد ردا مطلقا صالحاً لكل مجال وملف، بل نقوم بدراسة كل مجال على حدة، ننظم فيه المنافسة بين الأطراف ونفاضل بينها، معتمدين على ضخامة السوق المصرية وهى إحدى الإيجابيات القليلة لمعدلات الإنجاب الرهيبة، فمصر لم تعد سوقاً يمكن إهمالها.

ولكن العملية أكثر تعقيداً، لا سيما مع زيادة حدة الاستقطاب الدولى، وقد نجد أنفسنا فى وضع شبيه بوضع الدول الآسيوية، فشريكها التجارى الأول الصين، وشريكها العسكرى والأمنى الأول الولايات المتحدة، وتواجه تلك الدول صعوبات متصاعدة فى إدارة هذا الوضع الذى ما زال محتملا، وقد لا يظل كذلك طويلاً. ولذلك أقترح متابعة دقيقة لتعامل تلك الدول مع هذه المشكلة.

ومن المعروف أن القيادة تبذل جهودا كبيرة لزيادة عدد شركاء مصر ولعدم وضع البيض فى سلة واحدة وأنها حققت نتائج ممتازة فى هذا الصدد، ولكن الغرب ودول الخليج يظلون شريكنا الرئيسى. والسؤال هو: هل يمكن الاعتماد عليهم أم علينا التفكير فى خيارات أخرى.

والسؤال ذو شقين، أحدهما يتناول الاستمرارية والتغيير فى سياسات الدول الغربية، وهل سيتغير موقفها منا، والسؤال الثانى يتعلق بمستقبل موازين القوى بين تلك الدول، وبينها وبين منافسيها الرئيسيين الصين وروسيا. هل يمكن لأحدهما حسم معركة الريادة فى النظام الدولى لصالحه؟ وفى الواقع هذا الشق يستدعى سؤالاً أكثر جذرية، الكبار يعانون كلهم دون استثناء أزمات داخلية عنيفة تعرضهم لتراجع حاد قد يصل إلى درجة الانهيار… من الأقدر على البقاء؟

فيما يتعلق بالشق الأول، أشارت دراسات متعددة إلى تأثير الاحتقان الداخلى المتزايد فى الدول الغربية على عملية صناعة السياسة الخارجية الاستقطاب الرئيس فى تلك الدول يخص الموقف من العولمة، بين المتحمسين لها المستفيدين منها من ناحية، ومعارضيها المتضررين منها من ناحية أخرى، والعولمة قضية سياسة خارجية لها تأثير عميق ومباشر على كل طبقات المجتمع وعلى مستقبل الزراعة والصناعة فيه، وهى قضية لها أيضاً تأثير ثقافى عميق لأن العولمة تتخذ عامة شكل الأمركة، ولأن التعامل معها يقتضى خلق تجمعات سياسية كبيرة تضم دولا عديدة، ولا يعجب هذا الكثيرين، ولا سيما المتمسكين باستقلال وسيادة وطنية كاملين. ورأينا كلنا كيف تقلبت السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ مطلع الألفية، كل رئيس يميل إلى تغيير خريطة التحالفات التى ورثها، واتهم كل من بوش وأوباما وترامب بإساءة معاملة حلفاء أمريكا التقليديين، لا سيما فى منطقتنا.

قد يكون التمييز بين أمريكا وأوروبا من ناحية، وبين مناطق أوروبا المختلفة من ناحية أخرى واجبا.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية