تعددت المناسبات، وتنوعت الصدف، وكثرت دوائر اهتمامى فى الأسابيع الأخيرة، وكلها دفعتنى إلى إعادة النظر فى الخمسينات، سنوات صراع دولى محتدم، وتأسيس الجمهورية الخامسة فى فرنسا ودولة يوليو فى مصر، وبدايات المشروع الأوروبى ومشروعات «دول الرفاة» هنا وهناك. ومن نافلة القول إن مشوارى مع الخمسينيات سيطول رغم معرفتى المعقولة بالمعطيات والسياقات.
بصفة عامة، يميل دارسو السياسة الخارجية المصرية إلى اعتبار الخمسينيات والستينيات مرحلة انتهت مع كارثة 67 وأننا دخلنا بعدها مرحلة أو مراحل جديدة تمامًا، اتسم فيها الأداء بواقعية فى تحديد الغايات، وبتوجس مشروع من التصعيد غير المحسوب بدقة، وبتغيير جذرى فى خريطة التحالفات. ولهذه القراءة مزايا وأسانيد لا أنكرها.
وأدرك أن مصر اليوم ليست مصر الخمسينيات، وإقليم اليوم ليس إقليم الخمسينيات، وغرب وشرق اليوم ليسا غرب وشرق الخمسينيات، وتكنولوجيا اليوم ليست تكنولوجيا الخمسينيات، ووضع النساء تغير تغيرًا جذريًّا إلى الأحسن فى أمور عديدة، وإلى الأسوأ فى شئون كثيرة، واليوم، الكثير من المواطنين يملكون تليفونًا محمولًا وتلفازًا وقدرة على مشاهدة قنوات عربية وأجنبية، وعدد مالكى السيارات تضاعف مرات ومرات، شأنه شأن عدد المصريين الذين زاروا دولًا أخرى، ومصر لم تعد دولة تعتمد أولًا وثانيًا وثالثًا على الزراعة، وفى المقابل نستطيع أن نتكلم عن ترييف المدن، والآن لم تعد فى مصر جاليات غربية أو متمصرة يعتدّ بها، ولم يعد بها يهود وكانوا مكونًا مهمًّا من مكونات النسيج الوطنى، وفى المقابل هناك الملايين من المغتربين المصريين، ومن المهاجرين العرب والأفارقة فى مصر. ومصر بها الآن مؤسسات عسكرية وأمنية، وأغلب القطاعات والمنشآت الاقتصادية تحت سيطرة مصرية، وأستطيع أن أواصل رصد التغيرات، ولكننى أحسب أن الفكرة وصلت.
بيد أن عدم الاستهانة بأوجه الشبه بين المرحلتين أمر واجب، نعيش فى عالم يوجد فيه عدد ضخم من الأطراف سئموا الهيمنة الغربية وميل الغربيين إلى التوبيخ والتلقين والتدخل فى شئون الغير، وفيه يحتدم الصراع بين القوى الكبرى، وكلٌّ منها يمارس ضغوطًا على كل الفاعلين لينضمّوا إلى معسكرها، ويناورون ويدبرون مقالب للوقيعة بين الفاعلين والدول الأعداء، وعلى الصعيد الإقليمى صحيح أن مركز الثقل انتقل إلى الخليج، وأن عدد دول الجوار التى انهارت مرعب، ولكن هناك سمات لم تتغير، منها ميل عدد من الفاعلين الإقليميين إلى استدعاء القوى الخارجية الطامعة وإلى توريطها فى الصراعات اللانهائية، وميل هذه القوى وغيرها إلى التدخل إما لحماية وتأمين مصالحها، وإما لنهب ما يمكن نهبه وضمان نصيب فى كعكة إعادة التعمير إن جاء يومه. وفى مصر اليوم، هناك نظام سياسى رئاسى يتيح للرئيس ومعاونيه السلطات والأدوات التى تسمح بالتعامل مع التهديدات الخارجية، وما زالت فيه السلطة التنفيذية أقوى بكثير من السلطات التشريعية والقضائية، وما زال هناك رأى عام شديد السخط على الغرب، وقطاعات كبيرة من النخب ومن الطبقات المتوسطة لها ارتباطات ومصالح مع هذا الغرب أو مع قوى أخرى، ارتباطات ومصالح تسهل عمل الدولة، وتدعمه أحيانًا، وتعقده بل تعرقله أحيانًا أخرى. وما زالت العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص غير مريحة للطرفين، وما زال التوفيق والموازنة بين اعتبارات الأمن القومى والوطنى واعتبارات الاقتصاد، أو بين ضرورات التحديث ومقتضيات الاستقرار والسلام الاجتماعى، أمرًا عسيرًا، رغم أن الأمن والاستقرار لن يتوافرا دون نهضة اقتصادية ودون تحديث، والعكس صحيح. وأخيرًا وليس آخرًا، ما زالت الحريات والعدالة الاجتماعية ملفات شائكة متعثرة، وما زالت الأحزاب والحركات السياسية غير قادرة أو غير راغبة فى تمثيل الفقراء والاهتمام بهم.
وهناك قطاعات كثيرة تطالب بوقفة مع الغرب، وربما أكثر من مجرد وقفة، وتتعاطف والموقف الروسى، وترى أن الوقفة والتعاطف وجهان لنفس العملة. لذلك أردت العودة إلى تأمل مشوارنا التاريخى.
يتبع * أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية