خواطر مواطن مهموم 181

توفيق اكليمندوس

10:35 ص, الأحد, 12 مارس 23

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:35 ص, الأحد, 12 مارس 23

عن الأيديولوجية الغربية 2

كون الخطاب الحقوقى سلاحًا مهمًّا فى ترسانة أدوات السياسات الخارجية للدول الغربية، لا يعنى فى حد ذاته أن هذا الخطاب خطأ، ولا يعنى أنه كلمة حق يُراد بها باطل، ولا- طبعًا- أنه كلمة حق لوجه الله.

فى هذا الخطاب كلام لا يمكن معارضته، وفيه كلام لا يعجب المؤمنين، متدينين كانوا أم لا؛ لأنهم يعتقدون أنه يخالف القاسم المشترك لكل الأديان، وهذا التقييم تقييم خاطئ فى أغلب الأحوال، ولكنه حقيقى فى بعضها. وأيًّا كان رأيى أو رأى غيرى فى التفسيرات المختلفة للأديان، يبقى أن تحفُّظ المؤمنين وتوجسهم من الاعتراف ببعض الحقوق حقيقة دامغة، وهناك تصور ساذج يرى أنك تستطيع أن تلوى ذراع النصوص المقدسة لتقول الكلام المراد، وهذا التصور غربى وغبى، نعم هناك مئات من التفسيرات الممكنة للنصوص، ونعم الاجتهاد والتجديد مطلوبان، ولكن هناك حدودًا لما هو ممكن.

أول اعتراض إذن هو أن جمهور المصريين لن يقبلوا بنودًا بالكامل، ولا مصلحة للدولة فى فرضها وفى خوض معارك من أجلها. ولا البنية الاجتماعية ولا الثقافة يمكن تغييرهما بجرّة قلم، الدولة تختار معاركها وفقًا لأولوياتها، وتخوص معارك يومية لتمكين المرأة، والكوميدى أن هناك خطابات حقوقية تندِّد بذلك لأنها ترى فى هذا الخط منهجًا ماكرًا يحاول إخفاء عيوب الدولة وحِدة عنفها وما إلى ذلك.

ولكن هذه السلة من الاعتراضات- توجس المؤمنين ورفض المصريين- لا تكفي؛ لأنها لا تردّ على سؤال محدد: هل هذا الخطاب يجسد المُثل الإنسانية العليا والغاية السامية التى يتعين السعى إلى تحقيقها والمرجعية التى تسمح بتقييم نظام سياسى ومجتمع ما؟ أو بمعنى آخر… هل رفضنا لهذا الخطاب يعنى أننا متخلفون رجعيون مُعادون للحضارة وللإنسان؟

الرد على هذا السؤال أمر معقد. أول ما يخطر على البال هو ضرورة التمييز بين البنود المختلفة وتقييم كل بند على حدة. ولكن إقرار هذا المبدأ لا يحل كل المشكلات نظرًا لتعدد الرؤى حول أهمية البنود، طبعًا هناك رؤى هى ضرب من ضروب الاستعباط، ولا تعكس إلا رغبة فى التهرب من احترام الحقوق، وهناك استعباط مقابل لمن يتصور أن الخطاب الحقوقى نص مقدس صالح لكل مكان وزمان يحل كل المشكلات ويسفِّه كل الاعتبارات الأخرى، ولكن هناك خلافات جوهرية بين الرؤى المختلفة التى تتعامل بجدية مع الموضوع. ومن ناحية أخرى فإن اشتراط وجود إجماع عليه لاعتبار الحق مقدسًا يضيّق من دائرة المقدس.

المشكلة الكبرى فى الخطاب الحقوقى ليست فى هذا البند أو ذاك، ولا فى عدم مراعاته الخصوصيات الثقافية والتفسيرات الدينية السائدة، ولا فى توظيفه الغربى المستفز، فالتوظيف الغربى يجرّد الخطاب من الشرعية، المشكلة الرئيسة فى استحالته من ناحيته، وفى مخالفته منطق ومتطلبات السياسة.

نتكلم أولًا عن استحالته، لا أتكلم عن الواقع المصرى أو الهندى، أتكلم عن أى واقع؛ أيًّا كان، أسوق مثالًا لأوضح قصدى، لا شك أن الحرية حق مقدس يستحق أن يكون مطلقًا، ولا شك أن المساواة حق مقدس يستحق أن يكون مطلقًا، ولا شك أنه لا يمكن أن تجمع بينهما إن كانا مطلقين، إقرار الحرية المطلقة كحقّ يضر المساواة ويفسح المجال للأقوياء وإقرار المساواة المطلقة كحق معناه تقييد حادّ للحريات، ويمكن القول إن إقرار المساواة المطلقة لا يسمح باحترام الحق فى الخصوصية الثقافية، والعكس صحيح. مثال واحد يكون كافيًا، المساواة المطلقة تعنى قانون أحوال شخصية موحدًا، واحترام الخصوصية الثقافية يعنى تعدد شرائع الأحوال الشخصية وتحديد الغالب فى حالة تنازع الشرائع فى حالة زواج بين أصحاب عقائد مختلفة.

وهناك مشكلة كبرى أخرى لا يراها مروِّجو الخطاب الحقوقي؛ وهى أن الحفاظ على تماسك المجتمع ومنع تحلله هموم حقيقية يجب أخذها فى عين الاعتبار.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية