خواطر مواطن مهموم 170

توفيق اكليمندوس

9:10 ص, الأحد, 25 ديسمبر 22

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:10 ص, الأحد, 25 ديسمبر 22

عن الشعبوية الأوروبية (2)

فى المقال السابق قلت إن الاستقطاب الجديد فى أوروبا هو بين من يستطيع أن يعمل فى أى مكان، وبين من يحتاج إلى الحياة وإلى العمل فى بلد يعرفها. وقلت إن أغلب قيادات أحزاب الحكم التقليدية؛ يمينية كانت أم يسارية، تنتمى إلى الفريق الأول، ولا تفهم الفريق الثانى، مما دفع فرق “العمل فى مكان محدد” أصحاب الشهادات المحلية الذين لا يتكلمون إلا لغة وطنهم، إلى التصويت للأحزاب الشعبوية.

للتدليل على عمق الهوة بين النخبة المستفيدة من العولمة وأصحاب الحاجة إلى المكان المحدد، أذكّركم ببعض التصريحات، قال الرئيس الفرنسى ماكرون، مرة: “عندما تذهب إلى محطة قطار ترى العديد من الناس الذين لا يساوون شيئًا”.

وجمع الصحفى جودهارت، صاحب أهم كتاب عن قضيتنا، عددًا من التصريحات المذهلة لطونى بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، أقتبس واحدًا “أسمع من يقول إن علينا أن نخصص وقتًا لمناقشة (جدوى) العولمة، وكأنه من الممكن تصور جدل حول حق الخريف فى أن يحل محل الصيف! نعم، خصوصية العالم الجديد هى عدم اكتراثه بالتقاليد وبالموروث، هو عالم لا يغفر الهشاشة ولا يحترم أصحاب السمعة الطيبة القديمة، ولا ممارسات معتمدة فيه، هو عالم مليء بالفرص ولكن لن يستفيد منها سوى الأسرع فى التأقلم، الذين لا يشتكون، المنفتحين ذوى الكفاءة القادرين والمصممين على مواكبة التغيير”.

وعلينا ألا ننسى أن الاثنين- ماكرون وبلير- محسوبان على وسط اليسار، وتصريحاتهم تروِّج لقيم العولمة ولكنها كاشفة عن عجز عن فهم مأساة الفريق الآخر، رغم أن هذا الفريق كان فى الماضى القريب القاعدة الانتخابية لحزب العمال؛ حزب بلير. ويقول رجلنا إن أهم تغيير فى حياة المواطنين تغيير يُعرّض وظائفهم للخطر ويهدد هوية وطنهم، هذا التغيير لا يناقَش.

أسوق مثالًا ذكرته مرارًا، خاصًّا بمدينة بوردو الفرنسية، أراد العمدة أن يحوّلها إلى مركز جاذب للشركات المتعددة الجنسيات الكبرى، وفهم أن الأمر يتطلب تحديث وتجديد البنية التحتية، ولذلك رفع الضرائب المحلية، وبارك الجميع هذه الخطوة؛ طمعًا فى ثمرات العولمة، وتم التجديد، وفعلًا جاءت الشركات وهرولت إلى بوردو، وكانت نتيجة هذه الظاهرة ارتفاعًا مريعًا فى ثمن وأجرة الشقق والعقارات، وعجز أبناء الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة عن التعامل مع هذا الارتفاع، واضطروا إلى ترك وسط المدينة والذهاب إلى ضواح بعيدة نسبيًّا، ولكنهم احتفظوا بوظائفهم فى وسط المدينة، واشتروا سيارات للتنقل؛ فلم تكن هناك شبكة نقل عام، أى ارتفعت نفقاتهم واضطروا بسبب طول المسافات إلى الاستيقاظ مبكرًا وإلى العودة إلى منازلهم فى وسط الليل، وبدأوا يلومون أنفسهم بأنهم قبلوا رفع الضرائب المحلية عندما كانوا يقطنون وسط بوردو، وفجأة قرر فرافير حكومة باريس فرض ضرائب جديدة على البنزين والوقود، وعللوا هذا بعدم إحساس المواطنين فى الأقاليم بالمسئولية فيستخدمون سياراتهم دون فهم لمخاطر الاحتباس الحرارى، ولم ينتبه الفرافير إلى أن مستخدمى السيارات فى الأقاليم غير مخيّرين؛ لعدم وجود نقل عام… وانفجرت انتفاضة السترات الصفراء.

قطعًا التشخيص يحتاج إلى تفاصيل، ليست كل الدول على شاكلة واحدة، وليست كل الأحزاب الشعبوية من الطراز نفسه، هناك شعبوية يمينية، وشعبوية يسارية، أغلب الشعبويات تحتقر الليبرالية وقِيمها، ولكن بعضها شديد الاعتزاز بها باعتبارها تراث الأمة، علاقات التيارات الشعبوية بالمؤسسات الدينية قد تكون جيدة، وقد تكون بالغة السوء، السمات المشتركة بين التيارات الشعبوية قليلة ولكنها مهمة، منها الخوف على هوية الوطن التى يهددها- فى رأى أغلبهم- المهاجرون، ولا سيما القادمين من بلاد لا تؤمن بالقيم الليبرالية، تُجمع هذه التيارات على كراهية النخب الحاكمة؛ بما فيها نخب بيروقراطية الاتحاد الأوروبى، وعلى الإيمان بضرورة وجود قائد قوى، وهذه القناعة تثير سؤالًا أطرحه فى المقال القادم؛ علاقة هذه التيارات بالرئيس بوتين.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية