Find Out More

Is your organization one of the Best Places to work in Egypt

workL

خواطر مواطن مهموم 154 .. الهرتلة واللغة والديمقراطية

خواطر مواطن مهموم 154 .. الهرتلة واللغة والديمقراطية
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:42 ص, الأحد, 4 سبتمبر 22

فى رواية جورج أورويل تحذف السلطة الشمولية كلمات ومصطلحات من اللغة، وتغير معانى كلمات أخرى٬ وتؤلف مصطلحات جديدة غامضة وتجبر الناس على استخدامها، فعلى سبيل المثال تسمى وزارة الإعلام التى تروِّج وتبث أكاذيب النظام وزارة الحقيقة، وحذف الكلمات ودفع الشعب إلى نسيانها هو حذف للمعنى الذى تشير إليه الكلمة، فينسى الناس أنهم عرفوا هذا المعنى. وفى أحْلك أيام الاتحاد السوفييتى كان الناس مجبَرين على استخدام يوميّ لأكثر مصطلحات المادية الجدلية غموضًا، وهم لا يفهمون ما معناها وإلام تشير.

ولأحد كبار خبراء الشأن السوفييتى ملاحظة عبقرية، لم يكن مطلوبًا من الناس أن يؤمنوا بالأيديولوجية وبروايتها ومصطلحاتها أو يستوعبوها، بل كانت وظيفتها تقتضى ألا تُفهَم ولا تُستوعَب، لماذا؟ تخيلوا الوضع… الكلام البسيط العادى ممنوع استخدام أغلبه، أنت مجبَر على اللجوء إلى مصطلحات لا تفهمها ولا يفهمها مُحاورك (إلا لو كان شيوعيًّا مؤمنًا) لتوصيل رسالة تعبر عن معان لا تعرف كيف تعبر عنها لأن الكلمات المناسبة الطبيعية إما منسية أو ممنوعة. أو من المفروض ألا تتكلم عن واقعك المعيش إلا لو نجحت فى وصفه وشرحه بأدوات ومصطلحات المادية الجدلية، واستطعت أن تقول إن واقعك يثبت أنها على حق. أغلب الناس كانت تنجح فى التغلب على الصعوبات والعوائق، ولكن هذا يتطلب جهدًا ذهنيًّا وعصبيًّا خارقًا يمنع التفكير إلى أبعد أو التعمق.

الخبير غالبًا يبالغ قليلًا، ولكننى عرفت فى جيل والدي- جيل عبد الناصر- موظفين كانوا يقولون إن حفظ الميثاق عن ظهر قلب كان مطلوبًا، والاستشهاد ببعض فقراته إضافة هامة ومرغوبة إلى قيمة الوثيقة والحديث وإلى رصيد مَن يبرع فى هذا، وكانوا يقولون إن أغلبهم لم يكن يفهم إلا المعنى العام، وأن جملًا بالكامل شكلت لغزًا بالنسبة لهم.

كان من المعروف أن ميخائيل جورباتشوف- آخر زعماء الاتحاد السوفييتي- خطيب سيئ ومحاور أسوأ، كان عاجزًا عن إتمام جملة، وكان ينتقل من فكرة إلى فكرة أخرى لا علاقة لها بالسابقة قبل أن يعبر جيدًا عن الأولى، لم يكن هذا ظاهرًا فى لقاءاته مع الغربيين؛ لأن المترجمين كانوا يرتبون كلامه أو يساعدونه على التعبير، ولكن عيوبه كانت ظاهرة عندما يتكلم مع الروس- أى دون مترجم. يفسر المراقبون هذا بأصوله الاجتماعية الريفية المتواضعة، ولكننى لست مستريحًا تمامًا لهذا التفسير، فجورباتشوف أتمَّ تعليمه الجامعى وحصل على ليسانس حقوق. أعتقد شخصيًّا أن الراحل العظيم كان يشتبك فى سريرته مع الأيديولوجية التى يؤمن بها ومصطلحاتها. كان جورباتشوف شيوعيًّا مؤمنًا، ولكنه اختلف عن رفاقه فى نقطتين… موقفه من العنف عامة، ومن العنف البالغ بصفة خاصة، وكان يهتز أمام المآسى الإنسانية. بالبلدى لم يكن “قلبه ميتًا”.

هناك آلاف من التعريفات لمفهوم الأيديولوجية، أكتفى بالتمييز بين الأيديولوجية الطبيعية- الأفكار المسبقة التى نلجأ إليها لتقييم الوقائع والأفعال وأهميتها، أنا مثلًا لا أحب الثورات ولكننى أعترف بضرورتها أحيانًا، ومن معايير حكمى على السياسات هل يمكن أن تتسبب فى ثورة أم لا، وبين الأيديولوجية الراوية لرواية متماسكة كاملة الأركان ولكنها الكذب بعينه وخالقة لواقع خيالى، فهى أكذوبة كبرى وإن اعتمدت فى بعض الجزئيات على وقائع وحقائق مثبتة، أكذوبة كبرى إلى درجة استحالة النقاش بين المؤمن بها وغير المؤمن إلا لو لجأ أحدهما إلى الكذب- أى تظاهر أحدهما بقبول مسلَّمات وفرضيات الآخر.

أغلب المندِّدين بالأنظمة الأيديولوجية ركزوا على كونها تفرض أكذوبة كبرى؛ أى على كونها نظامًا قائمًا على الكذب المحرِّف للواقع تحريفًا يكاد يكون كاملًا، أستفيد من شهادات مثقفى أوروبا الشرقية لإضافة أن النجاح فى إفساد اللغة والمصطلحات والكلمات شرط لنجاح الحكم الشمولي؛ لأن هذا الإفساد يمنع التفكير- مجرد التفكير- والتواصل بين أفراد الشعب.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية