عن الإستراتيجية الكبرى الوطنية (2)
أعتقد أن أغلب المصريين يعرفون ما هى التهديدات وما هى المصالح، على الأقل على النطاق الإقليمي، نحتاج إلى مياه النيل ونحتاج إلى بيئة ودول جوار ثابتة مستقرة لا تستضيف إرهابيين وتسهم فى استيعاب قوة العمل المصرية وتسهم فى تمويل تنميتنا، وأظن أن الكل يعرف أننا بعيدون جدًّا عن الوضع المرضي، وأن علينا العمل للمساهمة فى بنائه وتوفيره. لو كان تمويل تنميتنا من قِبل أشقائنا صدقة لن يستمر أبد الأبدين، ولو كان دافعه تحقيق الأمن قد لا يستمر إن اختفت التهديدات، تمويل تنميتنا يجب أن يكون رابحًا لهم ولنا، وعلينا المثابرة ليكون الوضع كذلك.
وأعتقد أن المصريين يعرفون أن ثروتنا فى شرق المتوسط مهدَّدة من دولة صاعدة طامعة تمارس سياسة خشنة ويعرفون أن الدولة المصرية تصدّت لها بنجاح. والسؤال يبقى: هل تراجع الطرف الآخر تكتيكى ومؤقت، أم ثمرة مراجعة إستراتيجية ونهائي؟ ومن ناحية أخرى قد لا يعرف المصريون أن تأمين باب المندب والبحر الأحمر أمر له أهمية قصوى وتطلّب ذراعًا طويلة اقتضى توفيره نهضة شاملة لجيشنا.
فى أحلام اليقظة أتمنى شراكة اقتصادية وتكاملًا يجمع بين دولة أو دول خليجية، ومصر والسودان للنهضة بالأخير لتثبيت الأوضاع فيه والحدّ من الهجرة الزاحفة إلى الشمال ولتحويله إلى خزان العالم العربى وإفريقيا للسلع الغذائية، ولكن تحقيق هذا بالغ الصعوبة، من ناحيةٍ علينا دراسة دقيقة لحقيقة تأثير الاحتباس الحرارى على السودان، إذ لا يوجد اتفاق بين الخبراء حول هذه المسألة، ومن ناحية أخرى يجب دعم السودان ليتمكن من تثبيت أوضاعه دون أن نعرّض أنفسنا لتهمة التدخل السافر، ونعمل على توفير التمويل اللازم والتغلب على كم مَهول من العوائق والمشكلات لا داعى لذكرها.
أما على مستوى الساحة الدولية فإن مصر تمسكت لفترة طويلة بالمبدأ الناصرى الخاص بالحياد الإيجابى وعدم الانحياز وتخلّت عنه بهدوء لأسباب عديدة؛ منها ضرورة الاعتماد على الولايات المتحدة لاسترداد الأرض ولتوفير حد أدنى أو معقول من الاستقرار فى المنطقة، ولفترة طويلة ظل الأمر واضحًا نتأرجح على حسب مصلحتنا بين العضوية فى المعسكر الغربي؛ شأننا شأن كل شركائنا العرب، وبين عدم الانحياز، لكن السؤال طُرح من جديد بعد انتهاج الولايات المتحدة سياسات بالغة الضرر بنا، نلخصها كالآتي: غزو العراق ثم الجمع بين التخلى عن التزامات والعمل النشيط على زعزعة استقرار الحلفاء والإكثار اللحوح من التدخل السافر ومن الطلبات غير المعقولة، كله تحت بند سمّاه الرئيس أوباما “القيادة من الخلف”.
ويرى البعض أن مصر لم تحدد موقفها، وأن هذا قمة الحصافة والوطنية والفهم فنعتمد سياسة ردود الأفعال دون تصور واضح ولا خطّ، لا بمعنى أن لا تصور لدينا، بل بمعنى أننا نجمع بين عدة تصورات ونتأرجح بينها. شخصيًّا أرى أن مصلحة مصر أن تكون فى المعسكر الغربى مع الاحتفاظ بكروت للمناورة. هناك ضرورة للاحتفاظ بهذه الكروت لعدة اعتبارات؛ بعضها دائم، وأخرى ظرفية، منها معاداة قطاعات متنوعة من النخب الأمريكية للنظام المصري، لأسبابٍ أيديولوجية ولتشخيص غبي؛ وهو أن أسلوب حكم الدول العربية هو السبب الحقيقى لنمو الإرهاب، ورغم تكذيب الواقع لهذه المقولة باستمرار- هل الدول الغربية خالية من الإرهاب- فإنهم مُصرّون عليه، وكثيرًا ما يقوم الأمريكيون بتجربة سياسات جديدة متهورة غير متوقَّعة؛ لأن فشلها مؤكَّد؛ لأسباب يراها الكل ما عداهم. وهذه مشكلة فى حد ذاتها، ولكنها أكبر فيما يخصنا؛ لأن مصر لا تملك ترف التجربة والمخاطرة، سياسة مصر ينقصها الخيال فى بعض الأحوال، ولكنها لا ترتكب الأخطاء الشنيعة التى يرتكبها البعض.
مشكلة المشاكل فى تقديرى أدواتنا وكيفية تنميتها، وكون اقتصادنا رغم تنوع أركانه ومقوماته شديد التأثر بالتقلبات العالمية.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية