الفكرة الحاكمة لهذه السلسلة من المقالات هى أن الإعلام الغربى ظالم لمصر تحديدًا، وأن هذا الظلم سابق للربيع العربي، وأنه ليس نتيجة مؤامرة كونية ضدنا، بل ثمرة مجموعة عوامل وظروف وأوضاع يمكن تفصيلها.
أول اعتراض على هذه الفكرة هو تعددية الإعلام الغربى ومشاربه، واستحالة قيام أى فريق برصد كل الصحف فى كل اللغات، وأدرك هذا وأحدد. أنا دائم المتابعة للصحافة الفرنسية، وأقرأ أهم ثلاث صحف أمريكية، وعددًا من المواقع الأمريكية المعروفة عالميًّا، وألقى بين الحين والآخر نظرة على صحف ومجلة بريطانية- إلى جانب قيامى بمتابعة عدد كبير من المواقع التابعة لمراكز الفكر. وأضيف أننى عملت فى وكالة أنباء فى وقت ما، وأننى كنت على اتصال بعدد من الصحفيين أغلبهم فرنسي.
نبدأ من القاعدة.. أغلب الصحفيين الشباب- فيما يتعلق بفرنسا هناك إحصائيات- ينتمون فكريًّا إلى أقصى اليسار، ويمكن القول إن التيارات اليسارية على تنوعها تجتمع على الاهتمام الشديد بالقضايا الاجتماعية وعلى التنديد بالظلم، وعلى تمنى الثورات والحلم بها، وقبل أن أكمل أشير إلى أن أغلبهم يتصور أن الثورات كلها تشبه ثورات شرق أوروبا فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي- أى أنها سلمية ولا تخريب فيها ولا إسالة دم وينتج عنها تحول ديمقراطي، وأن فهم أن أحداث أوروبا الشرقية استثناء يتصور أن الثورات كلها شبابية فتية عفوية “دمها خفيف” مثل انتفاضات 68، وأن فهم صدفة أن الثورات عامة عنيفة دموية ينسب هذا العنف إلى فداحة الظلم الاجتماعى وإلى ضيق أفق النخب الحاكمة.
وأشير أيضًا إلى فئة يسارية هامة فيما يتعلق بموضوعنا وهى اليسار المتعاطف مع العالم الثالث والمتبنّى لقضاياه. وأغلبه يندد بالاستعمار ويرى أن مرحلة ما بعده لم تنجح فى محو آثاره وأنماط العلاقات بين الشمال والجنوب وبين البيض وغيرهم، وهى علاقات تكرس العنصرية والتبعية وتلبسهما ثوبًا جديدًا. وهذه المدرسة تميل إلى اعتبار نخب الحكم فى العالم الثالث منفصلة عن شعوبها قامعة لها تتبنى الثقافة الغربية، ويرى أن هذه النخب فشلت فى قيادة المجتمعات، بل عمّقت مشاكلها وأنها المسئولة الرئيسة عن الظلم فى العالم الثالث، ومن ثم عن الإرهاب والتطرف.
يلاحظ أن هذا التيار له سلف مجيد دافع عن قضايا شعوبنا وتبنّى مشروعات التحرر الوطني، ولم يكتفِ بالدفاع عنها بالقلم، ولهذا السلف كل التقدير والود والامتنان، أما عن الخلف- من نتعامل معه اليوم- فيتبنى فى بلاده قضايا أبناء المهاجرين ويدافع عنها بأساليب أراها زارعة للفتنة معرقلة لأية مصالحة تاريخية، ولكنه على الأقل يدافع عنها، أما فيما يتعلق ببلادنا فهو يتصور أنه يدافع عن شعوبنا، ولكنه فى الواقع يشيطن نخبنا ويروّج للإخوان وغيرهم بزعم أنهم يمثلون التحرر من التغريب. ولا يعلم الكثير عن شعوبنا.
ألفت نظر القارئ إلى ما كتبته عن “الدفاع عن شعوبنا”. حدث تغيير فى تصور الصحفيين الغربيين للمهنة، يرى الكثيرون منهم أنه فارس نبيل يدافع عن قضية أو معسكر، لم يعد يرى فى نفسه واصفًا لواقع بتعقيداته، بل محاميًا ناصرًا لفريق.
تخيل شابًّا أوروبيًّا أو أمريكيًّا مثاليًّا محبًّا للبشرية مثقلًا بعقد ذنب تجاه من ظلموا من قِبل أسلافه، قد يكون صحفيًّا أو باحثًا، يجيء إلى مصر ويواجه واقعنا، يرى ظلمًا اجتماعيًّا فاحشًا، أحياء راقية وعشوائيات، طبقات غنية مسرفة، وفقرًا مدقعًا، ويرى غيابًا تامًّا لمفهوم المساواة بين الأفراد، يرى كيف يتعامل المخدوم مع الخادم، رب العمل مع العامل، الرجال مع النساء والعكس، ولو كان هذا الشاب شابة نجدها تعانى معاكسة وتنمر الرجال. باختصار يرى عيوبنا قبل أن يرى صفاتنا، ويرى المظلومين، ويقفز إلى تشخيص مفاده هذا الفساد يحتاج إلى ثورة تقضى عليه.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية