روسيا، القانون، الإعلام الغربي
فى المقال الماضى نددت على عجالة بموقف روسيا من القانون بصفة عامة، وللأمانة عليّ أيضًا التنديد بالموقف المتطرف المناقض، وهو موقف الخطاب الغربى الذى يرى أن السياسة عليها أن تخضع دائمًا للقانون. باختصار المهارة السياسية فى شق منها هى القدرة على تقييم خصوصية كل ظرف وعدم التسرع فى تصنيفه تحت قاعدة عامة. لا يمكن القول مثلًا إن إسقاط حاكم منتخب بالقوة أمر سيئ (أو جيد) فى كل الأحوال، وكلنا نعرف أحوالًا تسبَّب فيها احترام القانون فى كوارث مروّعة.
للموقف الروسى المحتقر للقانون مصادر، أحدها الماركسية اللينينية؛ فالماركسية- على الأقل فى نسختها السوفيتية- لا ترى فى القانون مجموعة قواعد عامة مجردة ملزِمة تنظم حياة المجتمع بما يتفق والعادات والتقاليد والمصالح والعدالة، بل ترى فيه تكريسًا ودفاعًا عن مصالح وحاجات، وربما تصورات الطبقة الحاكمة؛ أى أنه ظالم ما لم يصل العمال (وربما الفلاحون) إلى الحكم، وتسخر من ادعاءات الحيادية والعدل والتوازن. وفقًا للماركسية لا يتفق القانون والطبيعة، بل يتفق وخصائص نمط ونظام الإنتاج ومصالح مالكى أدواته.
ومصدر آخر لاحتقار القانون؛ تفسيرات مسيحية معينة ترى أن الهدف من الحياة التسامى والتصوف، وترى أنه على كل نفس بذل أقصى المستطاع للتقرب من الله، وأن هذا الحد الأقصى يتغير مع الأفراد، وأن الأحكام القانونية العامة تسمح بإرضاء ذمة سيئى النفوس الذين يكتفون باحترام القانون ولا يبذلون الغالى والنفيس لإرضاء الله…
من الواضح أن التصورات المادية للماركسية عن الإنسان، على نقيض التفسيرات المسيحية السابق ذكرها، ولكنهما يبثّان معًا نظرة سلبية للقانون.
هذا الكلام يصف بعض خصوصيات الثقافة الروسية، ولكن هذه الخصوصيات لا تحتم موقف السلطة الروسية من جيرانها، هذا الموقف يفسره من ناحية عقلية ومشوار كوادر الدولة السوفيتية الذين لم يقبلوا سياسة جورباتشوف القابلة لتحرر الشعوب، والذين رأوا فيها- ولهم بعض العذر- مرادفًا للفوضى مولدًا لها. وقطعًا، لسياسات جورباتشوف مساوئ عديدة، ولكن نسيان إيجابياتها العظيمة أمر مؤسف. وإلى جانب القراءة المشتركة بين كوادر وزارات القوة، هناك السمات الشخصية للقادة الروس وقلقهم من الأفول البطيء لروسيا ورغبتهم فى إيقافه.
أترك روسيا وأوكرانيا مؤقتًا، وأتطرق إلى قضية موقفنا من الإعلام الغربي. ومن نافلة القول إن هذه القضية تتطلب بحثًا علميًّا رصينًا لا أملك أدواته، فلا نملك مثلًا استطلاعات للرأي. أى أن حديثى مبنيٌّ على انطباعات.
على صفحتى على موقع فيسبوك مئات من التعليقات، وبالمناسبة أشكر كل من خصص وقتًا لقراءة كلامى ولمحاولة الرد عليها. الخبير والمتابع العادى للشأن العام؛ المسلم والمسيحى، الرجل والمرأة، الشاب والشيخ المُسن، الكل مُجمع على استخدام مقولة “هذا الكلام مصدره الإعلام الغربي” كحجة دامغة تثبت خطأ المعلومة وفسادها، وسوء نية متبنّيها، وفى المقابل، هناك ميل قوى بل قاهر إلى تصديق كلام الإعلام الروسى، رغم أنه موجَّه، ورغم أستاذيته فى فبركة الأخبار، وفى استخدام بعض الأخبار الصحيحة لتوجيه رسائل خاطئة.
موقف المعلّقين للأسف، له ما يبرره، الإعلام الغربى ظلَمَنا مرات ومرات، رصدها يتطلب كتبًا، والخواطر التالية ليست تعدادًا لكل سقطات هذا الإعلام، ولكنها ترمى إلى بيان لماذا وكيف يظلمنا، ولماذا لا يصدق الجمهور ما يصدر عنه، وبعدها أقول إن ظلمه لنا لا يعنى أنه يظلم روسيا، وكونه لا يفهم منطقتنا لا يعنى بالضرورة أنه لا يفهم روسيا وأوروبا الشرقية.
لا أحد منا يقرأ كل إصدارات هذا الإعلام، ولا يشاهد كل القنوات الإخبارية. من يذكّرنا بهذا يقصد عامة أن أحكامنا متسرعة، ولكننى أرى عكس ذلك… على اختلاف مشارب المصريين واختلاف مصادرهم يرى غالبيتهم أن التغطية الإخبارية لأحوالنا سيئة، ولكننا نستنتج متسرعين أن سبب هذا هو كون هذا الإعلام موجَّهًا، وهو ليس كذلك.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية