خواطر مواطن مهموم (120)

توفيق اكليمندوس

9:29 ص, الأحد, 26 ديسمبر 21

توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

9:29 ص, الأحد, 26 ديسمبر 21

عن الانحطاط والأفول (2)

لم أنتهِ من قراءة كتاب العلّامة الفرنسى جوليان فرويند عن الانحطاط والأفول، ولكننى قطعت شوطًا معقولًا فيه، الكتاب يعرض كيف تناول الفلاسفة ورجال الدين والمؤرخون والمفكرون عبر العصور ظاهرة الانحطاط وأفول الحضارات، ثم ينتهى باجتهاد العلّامة، الذى حدد عددًا من الشروط التى تسمح، إن توافر بعضها، بتشخيص “حالة انحطاط وأفول”، ومن الواضح أن كل الشروط التى ذكرها الكاتب متوافرة فى الحالة الأوروبية، كلها وليس بعضها.

فى الكتاب أنهيت الفصول الخاصة بالإغريق والإمبراطورية الرومانية والعصور الوسطي، ولا أستطيع، فى إطار مقال صحفي، تلخيص ما ورد فيه، ولا سيما أن عرضه لأفكار الكتاب وافٍ وطويل، لكننى سأذكر بعض النقاط؛ أولاها أن الانحطاط قد يكون نسبيًّا، شأنه شأن الأفول، بمعنى أن الدولة والمجتمع احتفظا بمستواهما، ولكن العالم شهد ظهور قوة جديدة صعدت وتفوقت على الدولة الأقدم وانتزعت منها الصدارة، ولم تستطع الدولة الأقدم مجاراة الدولة الأحدث، وترتّب على ذلك تبِعات اقتصادية وسياسية وعسكرية.. منها مثلًا سعى الدول الأخرى لكسب ودّ الدولة الأقوى. هذا النوع من الأفول والانحطاط، له أسباب خارجية وليست داخلية.

لكن هناك أفولًا وانحطاطًا يعود إلى عوامل داخلية أو إلى مزيج من العوامل الداخلية والخارجية، والمؤرخ اليونانى بوليبوس أول من درس الظاهرة بشيء من التفصيل، كان سؤاله الرئيس: لماذا انهارت بسرعةٍ المدن الأغريقية، فى حين أن المؤشرات كلها توحى بأن سيادة روما وتفوّقها على العالم سيدومان قرونًا من الزمان. وردّه تحدّث عن موازين القوة وتبِعات الحروب الطويلة على مدن الإغريق وعن طبيعة النظام السياسى الرومانى الذى صنفه بوليبوس فى خانة الأنظمة المختلطة، حيث له بعض ملامح حكم الفرد، وبعض ملامح حكم الأرستقراطية، وبعض ملامح حكم العامة ونجح فى إيجاد توليفة جمعت بين مميزات كل الأنظمة، وتفادت إلى حدٍّ كبير عيوبها القاتلة.

ورغم عظمة روما ودقّة دستورها كان القادة الرومانيون يدركون أن الأيام دول، بوليبوس يذكر اليوم الذى تم فيه القضاء على قرطاجة، فى هذا اليوم دار نقاش بينه وبين تلميذه القائد الظافر سكيبيو إميليان، وقال له سكيبيو “هو يوم عظيم لروما ولكننى قلِق، أخشى اليوم الذى سيشهد قيام قوة ستُلحق بروما الهزيمة القاسية التى ألحقناها بقرطاجة”.

لم يشهد سكيبيو إميليان اليوم الذى يخشاه، ولم يشهد تبِعات انتصاره على المجتمع الروماني، ثراء الطبقة الأرستقراطية أصبح فاحشًا، وتحللت أخلاقها وفسدت فسادًا مريعًا، وازدادت الهوة والفوارق بين الطبقات، واشتدّ الصراع بينها، واختلّ التوازن الذى أوجده الدستور، ومع زوال خطر قرطاجة وعدم ظهور خطر مماثل، لم يعد هناك حافز قوى يحث الرومان على تهدئة الصراعات الداخلية وعلى الحفاظ على وحدة الصف وتغليب الصالح العام.

حدث هذا تدريجيًّا، وبعدها بثمانين سنة بدأ المفكرون الرومان يتحدثون عن أفول وانحطاط مدينتهم حاكمة العالم، مركزين على أزمة الأخلاق، وعلى حِدة الصراع الداخلي، وأقاموا تمييزًا بين الانتفاضة التى تستهدف استرداد المعادلة السائدة أيام الزمن الجميل، وبين الانتفاضة التى تسعى لاستيلاء العامة على السلطة لمعاقبة النخبة.

ويفرض السؤال نفسه: ما الفارق بين تعاقب الأزمات الحادة وبين الأفول والانحطاط، ولن نسعى الآن إلى الرد، ونكتفى بالقول بأن القرن الأول قبل المسيح شاهد أفول وانحطاط النظام الجمهورى الرومانى وانهياره التام، ولكنه لم يشاهد انهيار روما، التى أصبحت إمبراطورية، إمبراطورية ازدهرت ثلاثة قرون أو أربعة، قبل أن تعود مظاهر الانحطاط.

أريد التشديد على كون القرن الأول قبل الميلاد- قرن أفول وانهيار النظام الجمهوري- هو قرن ازدهار الحياة الفكرية، ليس هناك علاقة بين ازدهار الحياة الفكرية وازدهار المجتمع، بالعكس يمكن القول إن الأزمات السياسية والاجتماعية الحادة تدفع المفكرين إلى التعمق فى البحث والتشخيص وإلى طرح حلول.

يتبع

د.توفيق اكليمندوس

  • أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية